وفي رواية عن ابن مردويه أنه بقي في المسجد اثنا عشر رجلا وسبع نسوة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ابن عباس «لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا » وفي رواية عن قتادة «والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم [ ص: 105 ]
أولكم لالتهب الوادي عليكم نارا » ، وقيل : لم يبق إلا أحد عشر رجلا ، وهم على ما قال : أبو بكر غالب بن عطية العشرة المبشرة وعمار في رواية في أخرى ، وعلى الرواية السابقة عدوا العشرة أيضا منهم . وعدوا وابن مسعود بلالا وجابرا لكلامه السابق ، ومنهم من لم يذكر جابرا وذكر بلالا ومنهم من ذكر وابن مسعود عمارا بدل ، وقيل : لم يبق إلا ثمانية ، وقيل : بقي أربعون ، وكانت العير لعبد ابن مسعود الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه تحمل طعاما ، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر .
وأخرج في مراسيله عن أبو داود قال : مقاتل بن حيان كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين حتى كان يوم الجمعة والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال : إن دحية بن خليفة قدم بتجارة وكان إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف فخرج الناس ولم يظنوا إلا أنه ليس في ترك حضور الخطبة شيء فأنزل الله تعالى وإذا رأوا إلخ فقدم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة ، ولا أظن صحة هذا الخبر ، والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يزل مقدما خطبتها عليها ، وقد ذكروا أنها شرط صحتها وشرط الشيء سابق عليه ، ولم أر أحدا من الفقهاء ذكر أن الأمر كان كما تضمنه ولم أظفر بشيء من الأحاديث مستوف لشروط القبول متضمن ذلك ، نعم ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن بعضهم شذ عن الإجماع على كون الخطبة قبلها والله تعالى أعلم ، والآية لما كانت في أولئك المنفضين وقد نزلت بعد وقوع ذلك منهم قالوا : إن " إذا " فيها قد خرجت عن الاستقبال واستعملت للماضي كما في قوله :
وندمان تزيد الكأس طيبا سقيت إذا تغورت النجوم
ووحد الضمير لأن العطف بأو واختير ضمير التجارة دون اللهو لأنها الأهم المقصود ، فإن المراد باللهو ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه ، أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموما فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه ؟ وقيل : الضمير للرؤية المفهومة من رأوا وهو خلاف الظاهر المتبادر ، وقيل : في الكلام تقدير ، والأصل إذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهوا انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأول عليه ، وتعقب بأنه بعد العطف بأو لا يحتاج إلى الضمير لكل منهما بل يكفي الرجوع لأحدهما فالتقدير من غير حاجة ، وقال الطيبي : يمكن أن يقال : إن " أو " في أو لهوا مثلها في قوله :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح
فقال الجوهري : يريد بل أنت فالضمير في إليها راجع إلى اللهو باعتبار المعنى ، والسر فيه أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله تعالى عدت لهوا ، وتعد فضلا إن لم تشغله كما في قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله انتهى وليس بشيء كما لا يخفى .
وقرأ - إليه - بضمير اللهو ، وقرئ - إليهما - بضمير الاثنين كما في قوله تعالى : ابن أبي عبلة إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما [النساء : 135] وهو متأول لأنه بعد العطف بأو لكونها لأحد الشيئين لا يثنى الضمير وكذا الخبر ، والحال والوصف فهي على هذه القراءة بمعنى الواو كما قيل به في الآية التي ذكرناها وتركوك قائما أي على المنبر .
واستدل به على وهو عند الحنفية أحد سننها ، وعند الشافعية هو شرط في الخطبتين إن قدر عليه ، وأخرج مشروعية القيام في الخطبة وغيره ابن ماجه أنه سئل أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما أو قاعدا ؟ [ ص: 106 ] ابن مسعود
فقال : أما تقرأ وتركوك قائما ؟ وكذا سئل عن ابن سيرين وأجابا بذلك ، وأول من خطب جالسا وأبو عبيدة . معاوية
ولعل ذلك لعجزه عن القيام ، وإلا فقد خالف ما كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن وابن ماجه ابن عمر كان يخطب خطبتين يجلس بينهما ، وذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام أن أول من استراح في الخطبة أبو حيان رضي الله تعالى عنه ، وكأنه أراد بالاستراحة غير الجلوس بين الخطبتين إذ ذاك ما كان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم عثمان وأبو بكر رضي الله تعالى عنهما وعمر قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة فإن ذلك نفع محقق مخلد بخلاف ما فيهما من النفع ، فإن نفع اللهو ليس بمحقق بل هو متوهم ، ونفع التجارة ليس بمخلد ، وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم بل لأنه أقوى مذمة ، فناسب تقديمه في مقام الذم ، وقال : قدمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم ، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين ، وهو قريب مما ذكرنا . ابن عطية
وقال الطيبي : قدم ما كان مؤخرا وكرر الجار لإرادة الإطلاق في كل واحد ، واستقلاله فيما قصد منه ليخالف السابق في اتحاد المعنى لأن ذلك في قصة مخصوصة ، واستدل الشيخ عبد الغني النابلسي عفا الله تعالى عنه على حل الملاهي بهذه الآية لمكان أفعل التفضيل المقتضي لإثبات أصل الخيرية للهو كالتجارة ، وأنت تعلم أن ذلك مبني على الزعم والتوهم ، وأعجب منه استدلاله على ذلك بعطف التجارة المباحة على اللهو في صدر الآية ، والأعجب الأعجب أنه ألف رسائل في إباحة ذلك مما يستعمله الطائفة المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي دائرة على أدلة أضعف من خصر شادن يدور على محور الغنج في مقابلتهم ، ومنها أكاذيب لا أصل لها لن يرتضيها عاقل ولن يقبلها ، ولا أظن ما يفعلونه إلا شبكة لاصطياد طائر الرزق والجهلة يظنونه مخلصا من ربقة الرق ، فإياك أن تميل إلى ذلك وتوكل على الله تعالى المالك والله خير الرازقين فإليه سبحانه اسعوا ومنه عز وجل اطلبوا الرزق .
واستدل بما وقع في القصة على بأنه اثنا عشر بناء على ما في أكثر الروايات من أن الباقين بعد الانفضاض كانوا كذلك ، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف ، وفيه أن ذلك وإن كان دالا على صحتها باثني عشر رجلا بلا شبهة لكن ليس فيه دلالة على اشتراط اثني عشر ، وأنها لا تصح بأقل من هذا العدد ، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلا وتمت بهم الجمعة ، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم ، وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه في صلاة الجمعة خلاف : فعند أقل العدد المعتبر في جماعة الجمعة إن بقي وحده ، أو مع أقل من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع ، وعند صاحبيه إذا كبر وهم معه مضى فيها ، وعند زفر إذا نفروا قبل القعدة بطلت لأن العدد شرط ابتداء فلا بد من دوامه كالوقت ، ولهما أنه شرط الانعقاد فلا يشترط دوامه كالخطبة ، وللإمام أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها ليس بصلاة فلا بد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها . أبي حنيفة
وقال جمهور الشافعية : إن انفض الأربعون ، أو بعضهم في الصلاة ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة بطلت الجمعة فيتمونها ظهرا لنحو ما قال زفر ، وفي قول : لا يضر إن بقي اثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وتمام ذلك في محله .
[ ص: 107 ]
وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروي أن ذلك قد وقع مرارا منهم ، وفيه أن كبار الصحابة كأبي بكر وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا ، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة ، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد ، وكان قد أصاب أهل وعمر المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا ، ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم ، ورواية أن ذلك وقع منهم مرارا إن أريد بها رواية في شعب الإيمان عن البيهقي أنه قال : بلغني - والله تعالى أعلم - أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعلو عند المحدثين عليه ، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته ، وأنى بذلك ؟ ! والجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر . مقاتل بن حيان