هذا «ومن باب الإشارة » على ما قيل في الآيات :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة إشارة إلى عظيم قدرته عز وجل وأن إفاضة العلوم لا تتوقف على الأسباب العادية ، ومنه قالوا : إن الولي يجوز أن يكون أميا كالشيخ
معروف الكرخي - على ما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12666ابن الجوزي - وعنده من العلوم اللدنية ما تقصر عنها العقول ، وقال
العز بن عبد السلام : قد يكون الإنسان عالما بالله تعالى ذا يقين وليس عنده علم من فروض الكفايات ، وقد كان الصحابة أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفقه من بعض الصحابة ، ومن انقطع إلى الله عز وجل وخلصت روحه أفيض على قلبه أنوار إلهية تهيأت بها لإدراك العلوم الربانية والمعارف اللدنية ، فالولاية لا تتوقف قطعا على معرفة العلوم الرسمية كالنحو والمعاني والبيان وغير ذلك ، ولا على معرفة الفقه مثلا على الوجه المعروف بل على تعلم ما يلزم الشخص من فروض العين على أي وجه كان من قراءة أو سماع من عالم أو نحو ذلك ، ولا يتصور ولاية شخص لا يعرف ما يلزمه من الأمور الشرعية كأكثر من تقبل يده في زماننا ، وقد رأيت منهم من يقول - وقد بلغ من العمر نحو سبعين سنة - إذا تشهد لا إله أن الله بأن بدل إلا فقلت له : منذ كم تقول هكذا ؟ فقال : من صغري إلى اليوم فكررت عليه الكلمة الطيبة فما قالها على الوجه الصحيح إلا بجهد ، ولا أظن ثباته على نحو ذلك ، وخبر
«لا يتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه » ليس من كلامه عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك لا يفيد في دعوى ولاية من ذكرنا .
وذكر بعضهم أن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2ويزكيهم بعد قوله سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2يتلو عليهم آياته إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفادة القالية اللسانية ، وقال بحصولها للأولياء المرشدين : فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص قلوبهم وتزكو نفوسهم ، وهو سر ما يقال له التوجه عند السادة النقشبندية ، وقالوا : بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه ، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلا يعول عليه عن الشارع الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا عن خلفائه رضي الله تعالى عنهم ، وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلا لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحبال القمر ، ولولا خوف الإطناب لذكرتها مع ما فيها ، ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين : التوجه والرابطة ، وقد شاهدت ذلك من فضل الله عز وجل ،
[ ص: 108 ]
وأيضا لا أدعي الجزم بعدم دليل في نفس الأمر ، وفوق كل ذي علم عليم ، ولعل أول من أرشد إليهما من السادة وجد فيهما ما يعول عليه ، أو يقال : يكفي للعمل بمثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخريهم وإن كان للبحث فيه مجال ولأرباب القال في أمره مقال ، وفي قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=3وآخرين إلخ بناء على عطفه على الضمير المنصوب قيل : إشارة إلى عدم انقطاع فيضه صلى الله تعالى عليه وسلم عن أمته إلى يوم القيامة ، وقد قالوا بعدم انقطاع فيض الولي أيضا بعد انتقاله من دار الكثافة والفناء إلى دار التجرد والبقاء : وفي قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=5مثل الذين حملوا التوراة إلخ إشارة إلى سوء حال المنكرين مع علمهم ، وفي قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=6قل يا أيها الذين هادوا الآية إشارة الى جواز امتحان مدعي الولاية ليظهر حاله بالامتحان فعند ذلك يكرم أو يهان ، وفي عتاب الله تعالى المنفضين إشارة إلى نوع من كيفيات تربية المريد إذا صدر منه نوع خلاف ليسلك الصراط السوي ولا يرتكب الاعتساف ، وفي الآيات بعد إشارات يضيق عنها نطاق العبارات ،
«ومن عمل بما علم أورثه الله عز وجل علم ما لم يعلم » .
هَذَا «وَمِنْ بَابِ الْإِشَارَةِ » عَلَى مَا قِيلَ فِي الْآيَاتِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ إِشَارَةٌ إِلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ إِفَاضَةَ الْعُلُومِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ ، وَمِنْهُ قَالُوا : إِنَّ الْوَلِيَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُمِّيًّا كَالشَّيْخِ
مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ - عَلَى مَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12666ابْنُ الْجَوْزِيِّ - وَعِنْدَهُ مِنَ الْعُلُومِ اللَّدُنِيَّةِ مَا تَقْصُرُ عَنْهَا الْعُقُولُ ، وَقَالَ
الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ عَالِمًا بِاللَّهِ تَعَالَى ذَا يَقِينٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ أَعْلَمَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ بِحَقَائِقِ الْيَقِينِ وَدَقَائِقِ الْمَعْرِفَةِ مَعَ أَنَّ عُلَمَاءَ التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ أَقْوَمُ بِعِلْمِ الْفِقْهِ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ ، وَمَنِ انْقَطَعَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَلُصَتْ رُوحُهُ أُفِيضَ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارٌ إِلَهِيَّةٌ تَهَيَّأَتْ بِهَا لِإِدْرَاكِ الْعُلُومِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْمَعَارِفِ اللَّدُنِيَّةِ ، فَالْوِلَايَةُ لَا تَتَوَقَّفُ قَطْعًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْعُلُومِ الرَّسْمِيَّةِ كَالنَّحْوِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْفِقْهِ مَثَلًا عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ بَلْ عَلَى تَعَلُّمِ مَا يَلْزَمُ الشَّخْصُ مِنْ فُرُوضِ الْعَيْنِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ سَمَاعٍ مِنْ عَالِمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وِلَايَةُ شَخْصٍ لَا يَعْرِفُ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ كَأَكْثَرِ مَنْ تُقَبَّلُ يَدُهُ فِي زَمَانِنَا ، وَقَدْ رَأَيْتُ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ - وَقَدْ بَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ نَحْوَ سَبْعِينَ سَنَةً - إِذَا تَشَهَّدَ لَا إِلَهَ أَنَّ اللَّهَ بِأَنْ بَدَلَ إِلَّا فَقُلْتُ لَهُ : مُنْذُ كَمْ تَقُولُ هَكَذَا ؟ فَقَالَ : مِنْ صِغَرِي إِلَى الْيَوْمِ فَكَرَّرْتُ عَلَيْهِ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ فَمَا قَالَهَا عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ إِلَّا بِجُهْدٍ ، وَلَا أَظُنُّ ثَبَاتَهُ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ ، وَخَبَرُ
«لَا يَتَّخِذُ اللَّهُ وَلِيًّا جَاهِلًا وَلَوِ اتَّخَذَهُ لَعَلِمَهُ » لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ فِي دَعْوَى وِلَايَةِ مَنْ ذَكَرْنَا .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2وَيُزَكِّيهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِفَاضَةِ الْقَلْبِيَّةِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْإِفَادَةِ الْقَالِيَّةِ اللِّسَانِيَّةِ ، وَقَالَ بِحُصُولِهَا لِلْأَوْلِيَاءِ الْمُرْشِدِينَ : فَيُزَكُّونَ مُرِيدِيهِمْ بِإِفَاضَةِ الْأَنْوَارِ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى تَخْلُصَ قُلُوبُهُمْ وَتَزْكُوَ نُفُوسُهُمْ ، وَهُوَ سِرُّ مَا يُقَالُ لَهُ التَّوَجُّهُ عِنْدَ السَّادَةِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ ، وَقَالُوا : بِالرَّابِطَةِ لِيَتَهَيَّأَ بِبَرَكَتِهَا الْقَلْبُ لِمَا يُفَاضُ عَلَيْهِ ، وَلَا أَعْلَمُ لِثُبُوتِ ذَلِكَ دَلِيلًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ عَنِ الشَّارِعِ الْأَعْظَمِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا عَنْ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَكُلُّ مَا يَذْكُرُونَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيَعُدُّونَهُ دَلِيلًا لَا يَخْلُو عَنْ قَادِحٍ بَلْ أَكْثَرُ تَمَسُّكَاتِهِمْ فِيهَا تُشْبِهُ التَّمَسُّكَ بِحِبَالِ الْقَمَرِ ، وَلَوْلَا خَوْفُ الْإِطْنَابِ لَذَكَرْتُهَا مَعَ مَا فِيهَا ، وَمَعَ هَذَا لَا أُنْكِرُ بَرَكَةَ كُلٍّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ : التَّوَجُّهُ وَالرَّابِطَةُ ، وَقَدْ شَاهَدْتُ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ،
[ ص: 108 ]
وَأَيْضًا لَا أَدَّعِي الْجَزْمَ بِعَدَمِ دَلِيلٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ، وَلَعَلَّ أَوَّلَ مَنْ أَرْشَدَ إِلَيْهِمَا مِنَ السَّادَةِ وَجَدَ فِيهِمَا مَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، أَوْ يُقَالُ : يَكْفِي لِلْعَمَلِ بِمِثْلِ ذَلِكَ نَحْوَ مَا تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ أَجِلَّةِ مُتَأَخَّرِيهِمْ وَإِنْ كَانَ لِلْبَحْثِ فِيهِ مَجَالٌ وَلِأَرْبَابِ الْقَالِ فِي أَمْرِهِ مَقَالٌ ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=3وَآخَرِينَ إِلَخْ بِنَاءٌ عَلَى عَطْفِهِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ قِيلَ : إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ انْقِطَاعِ فَيْضِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَقَدْ قَالُوا بِعَدَمِ انْقِطَاعِ فَيْضِ الْوَلِيِّ أَيْضًا بَعْدَ انْتِقَالِهِ مِنْ دَارِ الْكَثَافَةِ وَالْفَنَاءِ إِلَى دَارِ التَّجَرُّدِ وَالْبَقَاءِ : وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=5مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ إِلَخْ إِشَارَةٌ إِلَى سُوءِ حَالِ الْمُنْكِرِينَ مَعَ عِلْمِهِمْ ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=6قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا الْآيَةَ إِشَارَةٌ الَى جَوَازِ امْتِحَانِ مُدَّعِي الْوِلَايَةِ لِيَظْهَرَ حَالُهُ بِالِامْتِحَانِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُكْرَمُ أَوْ يُهَانُ ، وَفِي عِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنْفَضِّينَ إِشَارَةٌ إِلَى نَوْعٍ مِنْ كَيْفِيَّاتِ تَرْبِيَةِ الْمُرِيدِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ نَوْعُ خِلَافٍ لِيَسْلُكَ الصِّرَاطَ السَّوِيَّ وَلَا يَرْتَكِبَ الِاعْتِسَافَ ، وَفِي الْآيَاتِ بَعْدُ إِشَارَاتٌ يَضِيقُ عَنْهَا نِطَاقُ الْعِبَارَاتِ ،
«وَمَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ » .