ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم عطف على قوله تعالى : ولا يحزنك والفعل مسند إلى الموصول ، "وأن" وما عملت فيه ساد مسد مفعوليه عند سيبويه ؛ لحصول المقصود ، وهو تعلق أفعال القلوب بنسبة بين المبتدأ والخبر ، وعند المفعول الثاني محذوف ، "وما" إما مصدرية أو موصولة وكان حقها في الوجهين أن تكتب مفصولة ، لكنها كتبت في "الإمام" موصولة ، واتباع "الإمام" لازم ، ولعل وجهه مشاكلة ما بعده ، والحمل على الأكثر فيها، "وخير" خبر ، وقرئ: (خيرا) بالنصب على أن يكون لأنفسهم هو الخبر ، "ولهم" تبيين أو حال من خير ، والإملاء في الأصل إطالة المدة ، والملأ : الحين الطويل ، ومنه الملوان [ ص: 135 ] لليل والنهار لطول تعاقبهما ، وأما إملاء الكتاب فسمي بذلك لطول المدة بالوقوف عند كل كلمة . الأخفش
وقيل : الإملاء التخلية ، والشأن يقال : أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء .
وحاصل التركيب : لا يحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم ، أو أن الذي نمليه خير لأنفسهم ، أو لا يحسبن الكافرون خيرية إملائنا لهم ، أو خيرية الذي نمليه لهم ثابتة أو واقعة ، ومآل ذلك نهيهم عن السرور بظاهر إطالة الله تعالى أعمارهم وإمهالهم على ما هم فيه ، أو بتخليتهم وشأنهم بناء على حسبان خيريته لهم ، وتحسيرهم ببيان أنه سر بحت ، وضرر محض ، وقرأ (ولا تحسبن) بالتاء والخطاب : إما لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو الأنسب بمقام التسلية ، إلا أن المقصود التعريض بهم ؛ إذ حسبوا ما ذكر. وإما لكل من يتأتى منه الحسبان قصدا إلى إشاعة فظاعة حالهم ، والموصول مفعول ، ( وأنما نملي ) إلخ بدل اشتمال منه ، وحيث كان المقصود بالذات هو البدل ، وكان هنا مما يسد مسد المفعولين جاز الاقتصار على مفعول واحد ، وإلا فالاقتصار لولا ذلك غير صحيح على الصحيح ، ويجوز أن يكون أنما نملي مفعولا ثانيا ، إلا أنه لكونه في تأويل المصدر لا يصح حمله على الذوات ، فلا بد من تقدير؛ أما في الأول أي : لا تحسبن حال الذين كفروا وشأنهم ، وأما في الثاني أي : لا تحسبن الذين كفروا أصحاب (أنما نملي لهم) إلخ ، وإنما قيد الخير بقوله تعالى : ( لأنفسهم ) لأن الإملاء خير للمؤمنين ؛ لما فيه من الفوائد الجمة ، ومن جعل خيرا -فيما نحن فيه- أفعل تفضيل ، وجعل المفضل عليه القتل في سبيل الله تعالى جعل التفضيل مبنيا على اعتبار الزعم والمماشاة ، والآية نزلت في مشركي حمزة : مكة ، وهو المروى عن ، أو في مقاتل قريظة ، والنضير ، وهو المروي عن عطاء إنما نملي لهم ليزدادوا إثما استئناف بما هو العلة للحكم قبلها ، والقائلون بأن الخير والشر بإرادته تعالى يجوزون التعليل بمثل هذا إما لأنه غرض ، وإما لأنه مراد مع الفعل ، فيشبه العلة عند من لم يجز تعليل أفعاله بالأغراض ، وأما المعتزلة فإنهم وإن قالوا بتعليلها لكن القبيح ليس مرادا له تعالى عندهم ومطلوبا وغرضا ، ولهذا جعلوا ازدياد الإثم هنا باعثا نحو : قعدت عن الحرب جبنا لا غرضا يقصد حصوله ، ولما لم يكن الازدياد متقدما على الإملاء هنا ، والباعث لا بد أن يكون متقدما جعلوه استعارة بناء على أن سبقه في علم الله تعالى القديم الذي لا يجوز تخلف المعلوم عنه شبهه بتقدم الباعث في الخارج ، ولا يخفى تعسفه ؛ ولذا قيل : إن الأسهل القول بأن اللام للعاقبة .
واعترض بأنه وإن كان أقل تكلفا إلا أن القول بها غير صحيح ؛ لأن هذه الجملة تعليل لما قبلها ، فلو كان الإملاء لغرض صحيح يترتب عليه هذا الأمر الفاسد القبيح لم يصح ذلك ، ولم يصلح هذا تعليلا ؛ لنهيهم عن حسبان الإملاء لهم خيرا ، فتأمل . قاله بعض المحققين .
وقرأ بفتح (أنما) هذه ، وكسر الأولى ، وبياء الغيبة في (يحسبن) على أن الذين كفروا فاعل يحسبن ، وأنما نملي لهم ليزدادوا إثما قائم مقام مفعولي الحسبان ، والمعنى : ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم ، بل للتوبة والدخول في الإيمان ، وتدارك ما فات ، وإنما نملي لهم خير لأنفسهم اعتراض بين الفعل ومعموله ، ومعناه : أن إملاءنا خير لهم إن انتبهوا ، وتابوا . والفرق بين القراءتين : أن الإملاء على هذه القراءة لإرادة التوبة ، والإملاء للازدياد منفي ، وعلى القراءة الأخرى هو مثبت ، والآخر منفي ضمنا ، ولا تعارض بينهما ؛ لأنه عند يحيى بن وثاب أهل السنة يجوز إرادة كل منهما ، ولا يلزم تخلف المراد عن الإرادة ؛ لأنه مشروط بشروط كما علمت .
وزعم بعضهم أن جملة أنما نملي لهم خير إلخ حالية ، أي : لا يحسبن في هذه الحالة هذا ، وهذه الحالة منافية له [ ص: 136 ] وليس بشيء ولهم عذاب مهين جملة مبتدأة مبينة لحالهم في الآخرة إثر بيان حالهم في الدنيا ، أو حال من الواو ، أي : ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين ، وهذا متعين في القراءة الأخيرة ، كما ذهب إليه غير واحد من المحققين؛ ليكون مضمون ذلك داخلا في حيز النهي عن الحسبان بمنزلة أن يقال : ليزدادوا إثما ، وليكون لهم عذاب ، وجعلها بعضهم معطوفة على جملة ليزدادوا ، بأن يكون عذاب مهين فاعل الظرف ، بتقدير : ويكون لهم عذاب مهين ، وهو من الضعف بمكان ، نعم قيل : بجواز كونها اعتراضية ، وله وجه في الجملة ، هذا وإنما وصف عذابهم بالإهانة ؛ لأنه كما قال شيخ الإسلام : لما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا ، وزينتها ، وذلك مما يستدعي التعزز ، والتجبر وصفه به ؛ ليكون جزاؤهم جزاء وفاقا، قاله شيخ الإسلام ، ويمكن أن يقال : إن ذلك إشارة إلى رد ما يمكن أن يكون منشأ لحسبانهم ، وهو أنهم أعزة لديه عز وجل إثر الإشارة إلى رده بنوع آخر .