ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بيان لحال البخل وسوء عاقبته وتخطئة لأهله في دعواهم خيريته حسب بيان حال الإملاء ، وبهذا ترتبط الآية بما قبلها
وقيل : وجه الارتباط أنه تعالى ؛ لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد وغيره شرع ههنا في التحريض على بذل المال ، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ، وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء الله تعالى إياه من فضله ؛ للمبالغة في بيان سوء صنيعهم ، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله سبحانه ، وفعل الحسبان مسند إلى الموصول ، والمفعول الأول محذوف لدلالة الصلة عليه .
واعترض بأن المفعول في هذا الباب مطلوب من جهتين : من جهة العامل فيه ، ومن جهة كونه أحد جزأي الجملة ، فلما تكرر طلبه امتنع حذفه ، ونقض ذلك بخبر كان فإنه مطلوب من جهتين أيضا ، ولا خلاف في جواز حذفه إذا دل عليه دليل .
ونقل الطيبي عن صاحب الكشاف أن حذف أحد مفعولى حسب إنما يجوز إذا كان فاعل حسب ومفعولاه شيئا واحدا في المعنى ، كقوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا على القراءة بالياء التحتية ، ثم قال : وهذه الآية ليست كذلك ، فلا بد من التأويل بأن يقال : ( إن الذين يبخلون ) الفاعل لما اشتمل على البخل كان في حكم اتحاد الفاعل والمفعول ، ولذلك حذف ، وقيل : إن كنى عن قوة القرينة بالاتحاد الذي ذكره ، وكلا القولين ليسا بشيء ، والصحيح أن مدار صحة الحذف القرينة ، فمتى وجدت جاز الحذف ، ومتى لم توجد لم يجز . الزمخشري
والقول بأن هو ضمير رفع استعير في مكان المنصوب ، وهو راجع إلى البخل أو الإيتاء على أنه مفعول أولا تعسف جدا ، لا يليق بالنظم الكريم ، -وإن جوزه المولى عصام الدين تبعا لأبي البقاء- حتى قال في الدر المصون : إنه غلط ، والصحيح أنه ضمير فصل بين مفعولي حسب ، لا توكيد للمظهر كما توهم ، وقيل : الفعل مسند إلى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو ضمير من يحسب ، والمفعول الأول هو الموصول بتقدير مضاف ، أي: بخل الذين ، والثاني : خيرا كما في الوجه الأول ، وهو خلاف الظاهر ، نعم إنه متعين على قراءة الخطاب .
وعلى كل تقدير يقدر بين الباء ومجرورها مضاف ، أي : لا يحسبن ، أو ( لا يحسبن الذين يبخلون ) بإنفاق أو زكاة ما آتاهم الله من فضله هو صفة حسنة ( أو خيرا ) لهم من الإنفاق بل هو شر عظيم لهم ، والتنصيص على ذلك مع علمه مما تقدم للمبالغة سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة بيان لكيفية شريته لهم ، والسين مزيدة للتأكيد ، والكلام عند الأكثرين إما محمول على ظاهره ، فقد أخرج عن البخاري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أبي هريرة " . "من آتاه الله تعالى مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاع أقرع ، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه ، يقول : أنا مالك أنا كنزك ، ثم تلا هذه الآية
وأخرج غير واحد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : " ، ثم قرأ الآية [ ص: 140 ] وأخرج ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه ، فيسأله من فضل ما أعطاه الله تعالى إياه فيبخل عليه إلا خرج له يوم القيامة من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه " ، وغيره عن عبد الرزاق أنه قال : يجعل ما بخلوا به طوقا من نار في أعناقهم . إبراهيم النخعي
وذهب بعضهم إلى أن الظاهر غير مراد ، والمعنى كما قال : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة ؛ عقوبة لهم ، فلا يأتون ، وقال مجاهد أبو مسلم : سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق على أنه حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ؛ للإيذان بكمال المناسبة بينهما ، ومن أمثالهم تقلدها طوق الحمامة ، وكيفما كان فالآية نزلت في مانعي الزكاة ، كما روي ذلك عن الصادق ، ، وابن مسعود والشعبي، ، وخلق آخرين ، وهو الظاهر ، وأخرج والسدي ، ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم أنها نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونبوته ، التي نطقت بها التوراة ، فالمراد بالبخل : كتمان العلم ، وبالفضل : التوراة التي أوتوها ، ومعنى ابن عباس سيطوقون ما قاله أبو مسلم ، أو المراد أنهم يطوقون طوقا من النار جزاء هذا الكتمان .
فالآية حينئذ نظير قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : " ، وعليه يكون هذا عودا إلى ما انجر منه الكلام إلى قصة أحد ، وذلك هو شرح أحوال أهل الكتاب ، قيل : ويعضده أن كثيرا من آيات بقية السورة فيهم : "من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار ولله ميراث السماوات والأرض أي : لله تعالى وحده لا لأحد غيره -استقلالا أو اشتراكا- ما في السموات والأرض مما يتوارث من مال وغيره ، كالأحوال التي تنتقل من واحد إلى آخر كالرسالات التي يتوارثها أهل السماء مثلا فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله وابتغاء مرضاته ، فالميراث مصدر كالميعاد ، وأصله موراث ، فقلبت الواو ياءا لانكسار ما قبلها ، والمراد به : ما يتوارث ، والكلام جار على حقيقته ، ولا مجاز فيه ، ويجوز أنه تعالى يرث من هؤلاء ما في أيديهم مما بخلوا به وينتقل منهم إليه حين يهلكهم ويفنيهم وتبقى الحسرة والندامة عليهم ففي الكلام على هذا مجاز قال : أي إن الله تعالى يفني أهلهما فيبقيان بما فيهما ليس لأحد فيهما ملك ، فخوطبوا بما يعلمون ؛ لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثا ملكا له الزجاج والله بما تعملون من المنع والبخل خبير فيجازيكم على ذلك ، وإظهار الاسم الجليل ؛ لتربية المهابة والالتفات إلى الخطاب للمبالغة في الوعيد ؛ لأن تهديد العظيم بالمواجهة أشد ، وهي قراءة ، نافع وابن عامر وعاصم وحمزة ، وقرأ الباقون بالياء على الغيبة . والكسائي