لتبلون جواب قسم محذوف أي والله لتختبرن ، والمراد لتعاملن معاملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأفعال الحسنة ، ولا يصح حمل الابتلاء على حقيقته لأنه محال على علام الغيوب كما مر ، والخطاب للمؤمنين أو لهم معه صلى الله عليه وسلم ، وإنما أخبرهم سبحانه بما سيقع ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ، ويستعدوا للقائه ويقابلوه بحسن الصبر والثبات ، فإن هجوم البلاء مما يزيد في اللأواء والاستعداد للكرب مما يهون الخطب ، ولتحقيق معنى الابتلاء لهذا التهوين أتى بالتأكيد ، وقد يقال : أتى به لتحقيق وقوع المبتلى به مبالغة في الحث على ما أريد منهم من التهيؤ والاستعداد ، وعلى أي وجه ، فالجملة مسوقة لتسلية أولياء الله تعالى عما سيلقونه من جهة أعدائه سبحانه إثر تسليتهم عما وقع منهم ، وقيل : إنما سيقت لبيان أن الدنيا دار محنة وابتلاء ، وأنها إنما زويت عن المؤمنين ليصبروا فيؤجروا إثر بيان أنها (متاع الغرور) ، ولعل الأول أولى كما لا يخفى ، والواو المضمومة ضمير الرفع ، ولام الكلمة محذوفة لعلة تصريفية ، وإنما حركت هذه الواو دفعا للثقل الحاصل من التقاء الساكنين وكان ذلك بالضم ليدل على المحذوف في الجملة ، ولم تقلب الواو ألفا مع تركها وانفتاح ما قبلها لعروض ذلك في أموالكم بالفرائض فيها والجوائح ، واقتصر بعض على الثاني مدعيا أن الأول الممثل في كلامهم بالإنفاق المأمور به في سبيل الله تعالى ، والزكاة لا يليق نظمه في سلك الابتلاء لما أنه من باب الإضعاف لا من قبيل الإتلاف ، وفيه نظر تقدم في البقرة الإشارة إليه ، وعن الاقتصار على الأول ، والأولى القول بالعموم (و) في (أنفسكم) بالقتل والجراح والأسر والأمراض وفقد الأقارب وسائر ما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد ، وقدم الأموال على الأنفس للترقي إلى الأشرف ، أو لأن الرزايا في الأموال أكثر من الرزايا في الأنفس . الحسن
ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي من قبل إيتائكم القرآن وهم اليهود والنصارى ، والتعبير عنهم بذلك إما للإشعار بمدار الشقاق ، والإيذان بأن ما يسمعونه منهم مستند على زعمهم إلى الكتاب ، وإما للإشارة إلى عظم صدور ذلك المسموع منهم ، وشدة وقعه على الأسماع حيث إنه كلام صدر ممن لا يتوقع صدوره منه لوجود زاجر عنه معه ، وهو إيتاؤه الكتاب كما قيل ، والتصريح بالقبلية إما لتأكيد الإشعار وتقوية المدار ، وإما للمبالغة في أمر الزاجر عن صدور ذلك المسموع من أولئك المسمعين .
ومن الذين أشركوا وهم كفار العرب أذى كثيرا كالطعن في الدين وتخطئة من آمن والافتراء على الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، والتشبيب بنساء المؤمنين . وإن تصبروا [ ص: 148 ] على تلك الشدائد عند ورودها وتتقوا أي تتمسكوا بتقوى الله تعالى وطاعته والتبتل إليه بالكلية والإعراض عما سواه بالمرة بحيث يستوي عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه فإن ذلك إشارة إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى ، وما فيه من معنى البعد إما لكونه غير مذكور صريحا على ما قيل ، أو للإيذان بعلو درجة هذين الأمرين وبعد منزلتهما .
وتوحيد حرف الخطاب إما باعتبار كل واحد من المخاطبين اعتناء بشأن المخاطب به ، وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير خصوصية أحوال المخاطبين .
من عزم الأمور (186) أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل أحد لما فيه من كمال المزية والشرف والعز ، أو مما عزمه الله تعالى وأوجبه على عباده ، وعلى كلا التقديرين فالعزم مصدر بمعنى المعزوم وهو مأخوذ من قولهم : عزمت الأمر - كما نقله - والأشهر : عزمت على الأمر ، ودعوى أنه لم يسمع سواه غير مسموعة كدعوى عدم صحة نسبة العزم إليه تعالى ؛ لأنه توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله وهو محال عليه تعالى ، ومما يؤيد صحة النسبة أنه قرئ : (فإذا عزمت) بضم التاء وهو حينئذ بمعنى الإرادة والإيجاب ، ومنه قول الراغب رضي الله تعالى عنها : أم عطية ، وما في حديث آخر يرغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة . نهينا عن اتباع الجنائز ، ولم يعزم علينا
وقولهم : عزمات الله تعالى - كما نقله - ومن هذا الباب قول الفقهاء : ترك الصلاة زمن الحيض عزيمة ، والجملة تعليل لجواب واقع موقعه كأنه قيل : (وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم) أو فقد أحسنتم ، أو نحوهما الأزهري فإن ذلك إلخ .
وجوز أن يكون ذلك إشارة إلى صبر المخاطبين وتقواهم ، فحينئذ تكون الجملة بنفسها جواب الشرط ، وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى ، وزعم بعضهم أن هذا الأمر الذي أشارت إليه الآية كان قبل نزول آية القتال ، وبنزولها نسخ ذلك ، وصحح عدم النسخ وأن الأمر بما ذكر كان من باب المداراة التي لا تنافي الأمر بالقتال ، وسبب نزول هذه الآية في قول ما تقدمت الإشارة إليه .
وأخرج عن الواحدي أن عروة بن الزبير أخبره أسامة بن زيد وسار يعود أسامة بن زيد في سعد بن عبادة بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، وفي المجلس ، فلما غشى المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن رواحة عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال : لا تغبروا علينا ، فسلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله تعالى ، وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه ، وقال : بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك ، واستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتساورون ، فلم يزل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا ، ثم ركب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على عبد الله بن رواحة فقال له : يا سعد بن عبادة سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب - يريد عبد الله بن أبي - قال : كذا وكذا ؟ فقال سعد : يا رسول الله اعف عنه واصفح ، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله تعالى بالحق الذي نزل عليك ، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة ، فلما رد الله تعالى ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق فغص بذلك ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى الآية . [ ص: 149 ] وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية ، وأردف عن الزهري عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط ، منهم المسلمون ومنهم المشركون ومنهم اليهود ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستصلحهم كلهم ، فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى ، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك ، وفيهم أنزل الله تعالى ولتسمعن الآية .
وفي رواية أخرى عن الزهري أن كعبا هذا كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويشبب بنساء المؤمنين فقال صلى الله عليه وسلم: " من لي بابن الأشرف ؟ فقال محمد بن مسلمة : أنا يا رسول الله ، فخرج هو ورضيعه أبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة ، وأتوا برأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي .