وروي عن أنها نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده لا حاجة له بها وينتظر موتها حتى يرثها فالنساء إما مفعول ثان لترثوا على أن يكن هن الموروثات ، وكرها مصدر منصوب على أنه حال من النساء ، وقيل : من ضمير الزهري ترثوا والمعنى لا يحل لكم أن تأخذوا نساء موتاكم بطريق الإرث على زعمكم كما حل لكم أخذ الأموال وهن كارهات لذلك أو مكرهات عليه ، أو أنتم مكرهون لهن ، وإما مفعول أول له ، والمعنى : لا يحل لكم أن تأخذوا من النساء المال بطريق الإرث كرها والمراد من ذلك أمر الزوج أن يطلق من كره صحبتها ولا يمسكها كرها حتى تموت فيرث منها مالها ، وقرأ حمزة ( كرها ) بالضم في مواضعه ، ووافقهما والكسائي عاصم وابن عامر في الأحقاف ، وقرأ الباقون بالفتح في جميع ذلك وهما بمعنى كالضعف والضعف ، وقيل : الكره بالضم الإكراه وبالفتح الكراهية ، وقرئ لا تحل بالتاء الفوقانية لأن أن ترثوا بمعنى الوراثة كما قرئ ويعقوب لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا لأنه بمعنى المقالة ، وهذا عكس تذكير المصدر المؤنث لتأويله بأن والفعل ، فكل منهما جار في اللسان الفصيح .
ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن أصل العضل التضييق والحبس ، ومنه عضلت المرأة بولدها عسر عليها كأعضلت فهي معضل ومعضل ، ويقال : عضل المرأة يعضلها مثلثة عضلا وعضلا وعضلانا بكسرهما ، وعضلها منعها الزوج ظلما ، وعضلت الأرض بأهلها غصت قال أوس :
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة " معضلة " منا بجيش عرمرم
[ ص: 242 ] و ( لا ) إما ناهية على ما قيل والفعل مجزوم بها ، والجملة مستأنفة كما قال أو معطوفة على الجملة التي قبلها بناء على جواز عطف جملة النهي على جملة خبرية كما نسب إلى أبو البقاء ، أو بناء على أن الجملة الأولى في معنى النهي إذ معناها " لا ترثوا النساء كرها " فإنه غير حلال لكم ، وإما نافية مزيدة لتأكيد النفي ، والفعل منصوب بالعطف على ترثوا كأنه قيل : لا يحل ميراث النساء " كرها " ولا عضلهن ، ويؤيد ذلك قراءة سيبويه ، " ولا أن تعضلوهن " ، وأما جعل لا نافية غير مزيدة والفعل معطوف على المنصوب قبله فقد رده بعضهم بأنه إذا عطف فعل منفي بلا على مثبت وكانا منصوبين فالقاعدة أن الناصب يقدر بعد حرف العطف لا بعد لا ولو قدرته هنا بعد العاطف على ذلك التقدير فسد المعنى كما لا يخفى ، والخطاب في المتعاطفين إما للورثة غير الأزواج فقد كانوا يمنعون المرأة المتوفى عنها زوجها من التزوج لتفتدي بما ورثت من زوجها ، أو تعطيهم صداقا أخذته كما كانوا يرثونهن كرها ، والمراد بما آتيتموهن على هذا ما أتاه جنسكم وإلا لم يلتئم الكلام لأن الورثة ما آتوهن شيئا ، وإما للأزواج فإنهم كما كانوا يفعلون ما تقدم كانوا يمسكون النساء من غير حاجة لهم إليهن فيضاروهن ويضيقوا عليهن ليذهبوا ببعض ما آتوهن بأن يختلعن بمهورهن ، وإلى هذا ذهب الكثير من المفسرين وهو المروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه والالتئام عليه ظاهر ، وجوز أن يكون الخطاب الأول للورثة ، وهذا الخطاب للأزواج والكلام قد تم بقوله سبحانه : ( كرها ) فلا يرد عليه بعد تسليم القاعدة أنه لا يخاطب في كلام واحد اثنان من غير نداء ، فلا يقال : قم واقعد خطابا لزيد وعمرو ، بل يقال : قم يا زيد ، واقعد يا عمرو ، وقيل : هذا خطاب للأزواج ولكن بعد مفارقتهم منكوحاتهم ، فقد أخرج أبي جعفر عن ابن جرير قال : كانت قريش ابن زيد بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها . والمراد من قوله سبحانه : لتذهبوا إلخ أن يدفعن إليكم بعض ما آتيتموهن وتأخذوه منهن ، وإنما لم يتعرض لفعلهن لكونه لصدوره عن اضطرار منهن بمنزلة العدم ، وعبر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ ، والإذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمنه لأمرين كل منهما محظور شنيع الأخذ والإذهاب لأنه عبارة عن الذهاب مصطحبا به; وذكر البعض ليعلم منه أن الذهاب بالكل أشنع شنيع .
إلا أن يأتين بفاحشة مبينة على صيغة الفاعل من بين اللازم بمعنى تبين أو المتعدي ، والمفعول محذوف أي مبينة حال صاحبها . وقرأ ابن كثير عن وأبو بكر ( مبينة ) على صيغة المفعول ، وعن عاصم أنه قرأ ( مبينة ) على صيغة الفاعل من أبان اللازم بمعنى تبين أو المتعدي ، والمراد بالفاحشة هنا النشوز وسوء الخلق قاله ابن عباس قتادة والضحاك وآخرون ويؤيده قراءة وابن عباس إلا أن يفحشن عليكم ، وفي « الدر المنثور » نسبة هذه القراءة لكن بدون عليكم إلى أبي أبي ، وأخرج وابن مسعود عن ابن جرير أن المراد بها الزنا . وحكي ذلك عن الحسن أبي قلابة ، والاستثناء قيل : منقطع ، وقيل : متصل وهو من ظرف زمان عام أي لا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت إيتائهن إلخ ، أو من حال عامة أي في حال من الأحوال إلا في هذه الحال ، أو من علة عامة أي لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لإيتائهن ولا يأبى هذا ذكر العلة المخصوصة لجواز أن يكون المراد العموم أي للذهاب وغيره ، وذكر فرد منه لنكتة أو لأن العلة المذكورة غائية والعامة المقدرة باعثة على الفعل متقدمة عليه في الوجود . وابن سيرين
وفي الآية إباحة لقيام العذر بوجود السبب من جهتهن . / [ ص: 243 ] وحكي عن الخلع عند النشوز أن إباحة أخذ المال منهن كان قبل الحدود عقوبة لهن . وروي مثل ذلك عن الأصم ، فقد أخرج عطاء وغيره عنه كان عبد الرزاق أخذ ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك الحدود ، وذهب الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أبو علي الجبائي وأبو مسلم أن هذا متعلق بالعضل بمعنى الحبس والإمساك ، ولا تعرض له بأخذ المال ففيه إباحة الحبس لهن إذا أتين بفاحشة وهي الزنا عند الأول والسحاق عند الثاني ، فالآية على نحو ما تقدم من قوله تعالى : فأمسكوهن في البيوت .
وعاشروهن أي خالقوهن بالمعروف وهو ما لا ينكره الشرع والمروءة ، والمراد ههنا النصفة في القسم والنفقة ، والإجمال في القول والفعل . وقيل : المعروف أن لا يضربها ولا يسيء الكلام معها ويكون منبسط الوجه لها ، وقيل : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له ، واستدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كن ممن لا يخدمن أنفسهن ، والخطاب للذين يسيئون العشرة مع أزواجهم ، وجعله بعضهم مرتبطا بما سبق أول السورة من قوله سبحانه : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وفيه بعد .
فإن كرهتموهن أي كرهتم صحبتهن وإمساكهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك فعسى أن تكرهوا شيئا كالصحبة والإمساك .
ويجعل الله فيه خيرا كثيرا كالولد أو الألفة التي تقع بعد الكراهة ، وبذلك قال ابن عباس ، وهذه الجملة علة للجزاء; وقد أقيمت مقامه إيذانا بقوة استلزامها إياه فإن عسى لكونها لإنشاء الترجي لا تصلح للجوابية وهي تامة رافعة لما بعدها مستغنية عن الخبر ، والمعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن ، ولا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها ، فلعل " لكم " فيما تكرهونه " خيرا كثيرا " فإن النفس ربما تكره ما يحمد وتحب ما هو بخلافه ، فليكن مطمح النظر ما فيه خير وصلاح ، دون ما تهوى الأنفس ، ونكر شيئا وخيرا ووصفه بما وصفه مبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميما للإرشاد ، ولذا استدل بالآية على أن الطلاق مكروه ، وقرئ ( ويجعل ) بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة حال أي وهو أي ذلك الشيء ( يجعل الله فيه خيرا كثيرا ) ، وقيل : تقديره والله يجعل الله بوضع المظهر موضع المضمر ، فالواو حينئذ حالية . وفي دخولها على المضارع ثلاثة مذاهب : الأول : منع دخولها عليه إلا بتقدير مبتدأ ، والثاني : جوازه مطلقا . والثالث : التفصيل بأنه إن تضمن نكتة كدفع إيهام الوصفية حسن وإلا فلا ، ولا يخفى أن تقدير المبتدأ هنا خلاف الظاهر . ومجاهد