فادخلي في عبادي في زمرة عبادي الصالحين المخلصين لي وانتظمي في سلكهم وكوني في جملتهم. وادخلي جنتي عطف على الجملة قبلها داخلة معها في حيز الفاء المفيدة لكون ما بعدها عقيب ما قبلها من غير تراخ، وكأن الأمر بالدخول في جملة عباد الله تعالى الصالحين إشارة إلى السعادة الروحانية لكمال استئناس النفس بالجليس الصالح، والأمر بدخول الجنة إشارة إلى السعادة الجسمانية ولفضل الأولى على الثانية قدم الأمر الأول وجيء بالثاني على وجه التتميم. ونكتة الالتفات فيهما ظاهرة بأدنى التفات.
وتعدى الدخول أولا بفي وثانيا بدونها قال لأن المدخول فيه إن كان غير ظرف حقيقي تعدى إليه في الاستعمال بفي، تقول: دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس، وإذا كان ظرفا حقيقيا تعدى إليه في الغالب بغير وساطتها فلا تغفل. وقيل: المراد: ارجعي إلى موعد ربك، واستظهر أن المراد بموعده تعالى على تقدير كون القول المذكور بعد تمام الحساب ما وعده سبحانه من الجنة والكون مع عباده تعالى الصالحين، والفاء تفسيرية، واستشكل عليه الأمر بالرجوع؛ إذ يقتضي أن تكون الجنة مقرا للنفس قبل ذلك، وأجيب بتحقق هذا المقتضى بناء على وجودها بالقوة في ظهر أبو حيان: آدم عليه السلام حين كان في الجنة وقد قيل نحو هذا في قوله تعالى: إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد على ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه، وعن علي رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بالمعاد الجنة دون ابن عباس مكة.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يتم إلا على القول بأن جنة آدم عليه السلام هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة لا جنة أخرى كانت في الأرض، والخلاف في ذلك قوي كما لا يخفى على من راجع كتاب مفتاح السعادة للعلامة ابن القيم واطلع على أدلة الطرفين. وقيل: المراد: ارجعي إلى أمر ربك، واستظهر أن المراد بالأمر على ذلك التقدير واحد الأمور ويفسر بمعاملة الله تعالى إياها بما ليس فيه ما يشغل بالها أو بتمييزها بموقف كريم أو بنحو ذلك مما يتحقق معه ما يقتضيه ظاهر الرجوع، وقيل: المراد: ارجعي إلى كرامة ربك ويراد جنس كرامته سبحانه والرجوع إليه باعتبار أنها كانت بعد الموت في البرزخ أو بعد البعث وقبل الحساب في نوع منه والفاء عليه قيل: تفسيرية أيضا. وعن عكرمة أن ذلك القول عند البعث، فقيل: النفس بمعنى الذات أيضا، والمراد بالرب هو الله عز وجل والكلام على حذف مضاف ولا يقدر محل كرامته تعالى مرادا به الموقف الخاص على ما سمعت لأنه إنما يكون لها بعد. وقيل: النفس بمعنى الروح، والمراد بالرب الصاحب، [ ص: 132 ] وفسر بالجسد وباقي الآية على حاله؛ أي ارجعي إلى جسدك كما كنت في الدنيا فادخلي بعد الرجوع إليه في جملة عبادي وادخلي دار ثوابي، وقيل: المراد بالنفس والرب ما ذكر، وقوله تعالى: والضحاك في عبادي على حذف مضاف؛ أي: فادخلي في أجساد عبادي، وجاء هذا في رواية عن ابن عباس ولا يضر الإفراد أولا والجمع ثانيا؛ لأن المعنى على الجنس. وقال وابن جبير، وجماعة إن ذلك القول عند الموت وأيد بما أخرجه ابن زيد عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه في الحلية عن وأبو نعيم قال: ابن جبير قرئت عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أيتها النفس المطمئنة الآية. فقال رضي الله تعالى عنه: إن هذا لحسن. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أما إن الملك سيقولها لك عند الموت». أبو بكر وجاء نحو هذا من رواية في نوادر الأصول من طريق الحكيم الترمذي ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر عن رضي الله تعالى عنه. الصديق
والنفس عليه بمعنى الروح، والمعنى على ما قيل: ارجعي بالموت إلى عالم قدس ربك راضية بما تؤتين من النعيم أو راضية عن ربك مرضية عنده تعالى، فادخلي في زمرة عبادي المقربين سكنة حظائر القدس، وادخلي جنتي التي أعددتها لذوي النفوس المطمئنة، وهذان الدخولان يعقبان الرجوع إلا أن الدخول الأول يعقبه بلا تراخ قبل يوم القيامة، والثاني يعقبه بتراخ؛ لأنه يوم القيامة إن أريد بدخول الجنة دخولها على وجه الخلود إلا أن الأمر لتحققه يجوز تعقيبه بالفاء، وجوز أن يكون تعقيب الأمرين على هذا النمط إن أريد بالدخول في عباده تعالى انتظامها في سلك العباد الصالحين المخلصين من جنسها، ويجوز على إرادة هذا التعقيب أن يراد فادخلي في أجساد عبادي. وجوز أن يكون تعقيب الأمرين بلا تراخ إن أريد بالدخول في العباد الدخول في زمرة المقربين من سكنة حظائر القدس وبالدخول في الجنة الدخول لا على وجه الخلود بل لنوع من التنعم إلى أن تقوم الساعة، ففي الحديث أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور في الجنة.
وفي بعض الآثار: إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنة؛ أي: نصف جنته التي وعد دخولها يوم القيامة، وذكر في وجه إدخالها مع الأرواح القدسية كالمرايا المصقولة فإذا انضم بعضها إلى بعض تعاكست أشعة أنوار المعارف فيظهر لكل منها ما يكملها فيكون سببا أنها لتكامل السعادات وتعاظم الدرجات وهو عندي كلام خطابي، وعن بعض السلف ما يؤيد بعض هذه الأوجه.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم أبي صالح أنه قال في الآية ارجعي إلى ربك هذا عنوان الموت، ورجوعها إلى ربها خروجها من الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل: لها ادخلي في عبادي وادخلي جنتي. وقيل: إن هذا القول بعد الموت وقبل القيامة، والمراد برجوعها إلى ربها رجوعها إلى جسدها لسؤال الملكين. أخرج عن ابن المنذر أنه قال في الآية: إن المؤمن إذا مات أري منزله من الجنة فيقول تبارك وتعالى: يا أيتها النفس المطمئنة عندي ارجعي إلى جسدك الذي خرجت منه راضية بما رأيت من ثوابي مرضيا عنك حتى يسألك منكر ونكير، وقيل: إنه في مواطن ثلاثة. محمد بن كعب القرظي
أخرج ابن المنذر عن وابن أبي حاتم أنه قال في الآية: بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع، وتفسر عليه بما ينطبق على الجميع. وقيل: يجوز أن يكون ذلك في سائر أوقات النفس في حياتها الدنيا، والمراد بالأمر بالرجوع إلى الرب الأمر بالرجوع إليه تعالى في كل أمر من الأمور، والمراد بالأمر بالدخول في العباد الأمر بالدخول في زمرة العباد الخلص الذين ليس للشيطان عليهم سلطان بالإكثار من العمل الصالح، وبالأمر بالدخول في الجنة الأمر بالدخول فيها بالقوة القريبة فكأنه سبحانه بعد أن بالغ جل وعلا في سوء حال الأمارة ووعيدها خاطب المطمئنة بذاك وأرشدها سبحانه إلى ما فيه صلاحها ونجاتها. ولا يخفى ما فيه؛ فلا ينبغي أن يعد وجها، وأيا ما كان من الأوجه فالظاهر العموم فيها، وإن أخرج زيد بن أسلم من [ ص: 133 ] طريق ابن أبي حاتم جويبر عن عن الضحاك أنها نزلت في ابن عباس رضي الله تعالى عنه حين اشترى عثمان بن عفان بئر رومة وجعلها سقاية للناس، وقيل: إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وقيل: نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك، فحول الله تعالى وجهه نحوها، فلم يستطع أحد أن يحوله بعد. فتفسير النفس المذكورة بأحد هؤلاء المذكورين كما نقل عن بعض من باب التمثيل وأن صورة السبب قطعية الدخول وينبغي أن يتحمل قول في تلك النفس كما أخرجه عنه ابن عباس هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على نحو ذلك، وأشعرت الآية على بعض أوجهها بأن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان ومقرها إذ ذاك في عالم الملكوت، والخلاف في المسألة شهير، وجمهور المتكلمين على أنها مخلوقة عند استعداد الأبدان لها وكذا ابن مردويه أفلاطون وأصحابه. وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح وأبو شيخ واليماني في «عبدي» على الإفراد واستظهر أن المراد الجنس كما في النفس. وللسادة الصوفية قدست نفوسهم كلام طويل في تقسيم مراتب النفس وقالوا: إن الآية متضمنة لمراتب ثلاث منها المطمئنة والراضية والمرضية وفسروا كلا بما فسروه، فمن أراده فليرجع إليه في كتبهم، وأنا أقول كما علم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعض الصحابة على ما أخرج الطبراني عن وابن عساكر رضي الله تعالى عنه: «اللهم إني أسألك نفسا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك». أبي أمامة