قوله سبحانه: ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ولو باعتبار آخر داخل؛ وهو مما لا بأس به إن لم يكن النزول بعد تمام الدخول. وقيل: المراد جنس نصر الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، وجنس الفتح؛ فيعم ما كان في أمر مكة -زادها الله تعالى شرفا- وغيره، وأمر الاستقبال عليه ظاهر، وأيا ما كان فالمراد بالمجيء الحصول وهو حقيقة فيه على ما يقتضيه ظاهر كلام وقال الراغب. القاضي: مجاز، والظاهر أن الخطاب في «رأيت» للنبي عليه الصلاة والسلام والرؤية بصرية أو علمية متعدية لمفعولين، و «الناس» العرب. و «دين الله» ملة الإسلام التي لا دين له تعالى يضاف إليه غيرها، والأفواج جمع فوج وهو على ما قال الجماعة المارة المسرعة ويراد به مطلق الجماعة. قال الراغب: وقياس جمعه أفوج؛ ولكن استثقلت الضمة على الواو فعدل إلى أفواج. وفي البحر: قياس فعل صحيح العين أن يجمع على أفعل لا على أفعال، ومعتل العين بالعكس، فالقياس فيه أفعال كحوض وأحواض، وشذ فيه أفعل كثوب وأثوب. الحوفي:
ونصب ( أفواجا ) على الحال من ضمير ( يدخلون ) وأما جملة ( يدخلون ) فهي حال من الناس على الاحتمال الأول في الرؤية ومعفول ثان على الاحتمال الثاني فيها، وكونها حالا أيضا بجعل رأيت بمعنى عرفت كما قال تعقبه الزمخشري بقوله: لا نعلم أن رأيت جاءت بمعنى عرفت، فيحتاج في ذلك إلى استثبات، والمراد بدخول الناس في دينه تعالى أفواجا أي جماعات كثيرة إسلامهم من غير قتال، وقد كان ذلك بين فتح أبو حيان مكة وموته عليه الصلاة والسلام، وكانوا قبل الفتح يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين.
أخرج عن البخاري عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون: دعوه وقومه؛ فإن ظهر عليهم فهو نبي. وعن قال: لما فتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحسن مكة قالت الأعراب: أما إذا ظفر بأهل مكة وقد أجارهم الله تعالى من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان، فدخلوا في دين الله تعالى أفواجا. وقال أبو عمر بن عبد البر: لم يتوف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي العرب رجل كافر، بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف منهم من قدم، ومنهم من قد وافده وتأول ذلك فقال: المراد -والله تعالى أعلم- ابن عطية العرب عبدة الأوثان؛ فإن نصارى بني تغلب ما أراهم أسلموا في حياة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن أعطوا الجزية، ونص بعضهم على أنهم لم يسلموا إذ ذاك فالمراد بالناس عبدة الأوثان من العرب كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن ونحوهم. وقال عكرمة المراد بالناس أهل ومقاتل: اليمن وفد منهم سبعمائة رجل وأسلموا واحتج له بما أخرجه من طريق ابن جرير الحصين بن عيسى عن معمر عن عن الزهري أبي حازم عن قال: ابن عباس المدينة إذ قال: «الله أكبر، الله أكبر، جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن». قيل: يا رسول الله، وما أهل اليمن؟ قال «قوم رقيقة قلوبهم [ ص: 257 ] لينة طاعتهم الإيمان والفقه يمان والحكمة يمانية». بينما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في
وأخرج أيضا من طريق عبد الأعلى عن معمر عن مرسلا. عكرمة
وقوله عليه الصلاة والسلام جاء في حديث أخرجه «الإيمان يمان» البخاري ومسلم عن والترمذي مرفوعا بلفظ: أبي هريرة اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية». فقيل: قال صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك لأن «أتاكم أهل مكة يمانية؛ ومنها بعث صلى الله تعالى عليه وسلم وفشا الإيمان. وقيل: أراد عليه الصلاة والسلام مدح الأنصار لأنهم يمانون وقد تبوءوا الدار والإيمان. وقول في الخبر في ابن عباس المدينة يعارض قول من قال: إن ذلك إنما قاله صلى الله تعالى عليه وسلم بتبوك وكان بينه وبين اليمن مكة والمدينة وهما دارا الإيمان ومظهراه ويحتمل تكرار القول، والظاهر أنه ثناء على أهل اليمن لإسراعهم إلى الإيمان وقبولهم له بلا سيف، ويشمل الأنصار من أهل اليمن وغيرهم، فكأن الإيمان كان في سنخ قلوبهم فقبلوه كما أنهى إليهم كمن يجد ضالته، ومثله في الثناء عليهم قوله عليه الصلاة والسلام: «أجد نفس ربكم من قبل اليمن».
وقال عصام الدين: يحتمل أن يكون الخطاب في: «رأيت الناس» عاما لكل مؤمن ثم قال: وما يختلج في القلب أن المناسب بقوله تعالى: يدخلون في دين الله أفواجا أن يحمل قوله سبحانه: والفتح على فتح باب الدين عليهم انتهى.
وكلا الأمرين كما ترى. وقرأ كما أخرج ابن عباس أبو عبيدة عنه: «إذا جاء فتح الله والنصر». وقرأ وابن المنذر في رواية: «يدخلون» بالبناء للمفعول. ابن كثير