وقوله تعالى: لم يلد إلخ. على نحو ما سبق. ونفي ذلك عنه تعالى لأن الولادة تقتضي انفصال مادة منه سبحانه؛ وذلك يقتضي التركيب المنافي للصمدية والأحدية، أو لأن الولد من جنس أبيه ولا يجانسه تعالى أحد؛ لأنه سبحانه واجب وغيره ممكن؛ لأن الولد على ما قيل يطلبه العاقل إما لإعانته أو ليخلفه بعده، وهو سبحانه دائم باق غير محتاج إلى شيء من ذلك، والاقتصار على الماضي دون أن يقال: لن يلد لوروده ردا على من قال: إن الملائكة بنات الله سبحانه؛ أو المسيح ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ويجوز أن يكون المراد استمرار النفي، وعبر بالماضي لمشاكلة قوله تعالى: ولم يولد وهو لا بد أن يكون بصيغة الماضي ونفي المولودية عنه سبحانه لاقتضائها المادة فيلزم التركيب المنافي للغنى المطلق والأحدية الحقيقية، أو لاقتضائها سبق العدم ولو بالذات أو لاقتضائها المجانسة المستحيلة على واجب الوجود، وقدم نفي الولادة لأنه الأهم؛ لأن طائفة من الكفار توهموا خلافه بخلاف نفي المولودية أو لكثرة متوهمي خلاف الأول دون خلاف الثاني بناء على أن النصارى يلزمهم بواسطة دعوى الاتحاد القول بالولادة والمولودية فيمن يعتقدونه إلها؛ وذلك على ما تضمنته كتبهم أنهم يقولون: الأب هو الأقنوم الأول من الثالوث، والابن هو الثاني الصادر منه صدورا أزليا مساويا بالأزلية له، وروح القدس هو الثالث الصادر عنهما كذلك، والطبيعة الإلهية واحدة وهي لكل من الثلاثة، وكل منها متحد معها ومع ذلك هم ثلاثة جواهر لا جوهر واحد، فالأب ليس هو الابن، والابن ليس هو الأب، وروح القدس ليس هو الأب ولا الابن، وهما ليسا روح القدس ومع ذا هم إله واحد؛ إذ لهم لاهوت واحد وطبيعة واحدة وجوهر واحد وكل منهم متحد مع اللاهوت، وإن كان بينهم تمايز، والأول هو الوجود الواجب الجوهري، والثاني هو العقل الجوهري ويقال له العلم، والثالث هو الإدارة الجوهرية ويقال لها المحبة، فالله ثلاثة أقانيم جوهرية؛ وهي على تمايزها تمايزا حقيقيا وقد يطلقون عليه إضافيا؛ أي: بإضافة بعضها إلى بعض جوهر وطبيعة واحدة هو الله وليس يوجد فيه غيره، بل كل ما هو داخل فيه عين ذاته، ويقولون: إن فيه -تعالى عما يقولون- أربع إضافات؛ أولاها: فاعلية التعقيل في الأقنوم الأول، ثانيتها: مفعولية التعقل في الأقنوم الثاني [ ص: 276 ] الذي هو صورة عقل الأب، ثالثتها: فاعلية الانبثاق في الأقنوم الأول والثاني اللذين لهما الإرادة، رابعتها: مفعولية هذا الانبثاق في الأقنوم الثالث الذي هو حب الإرادة الإلهية التي للأقنوم الأول والثاني، وزعموا أن التعبير بالفاعلية والمفعولية في الأقانيم الإلهية على سبيل التوسع، وليست الفاعلية في الأب نحو الابن إلا الأبوة وفيه وفي الابن نحو روح القدس ليست إلا بدء صدوره منهما وليست المفعولية في الابن وروح القدس إلا البنوة في الابن والانبثاق في الروح، ويقولون: كل ذلك مما يجب الإيمان به وإن كان فوق الطور البشري، ويزعمون أن لتلك الأقانيم أسماء تلقوها من الحواريين. فالأقنوم الأول في الطبع الإلهي يدعى أبا، والثاني ابنا وكلمة وحكمة ونورا وضياء وشعاعا، والثالث روح القدس ومغريا وهو معنى قولهم باليونانية: أراكليط. وقالوا في بيان وجه الإطلاق: إن ذلك لأن الأقنوم الأول بمنزلة ينبوع ومبدأ أعطى الأقنوم الثاني الصادر عنه بفعل يقتضي شبه فاعله وهو فعل العقل طبيعته وجوهره كله حتى أن الأقنوم الثاني الذي هو صورة الأول الجوهرية الإلهية مساو له كمال المساواة وحد الإيلاد هو صدور حي من حي بآلة ومبدأ مقارن يقتضي شبه طبيعته وهنا كذلك بل أبلغ لأن للثاني الطبيعة الإلهية نفسها فلا بدع إذا سمي الأول أبا والثاني ابنا، وإنما قيل للثاني كلمة؛ لأن الإيلاد ليس على نحو إيلاد الحيوان والنبات بل يفعل العقل أي يتصور الأب لاهوته وفهمه ذاته ولا شك أن تلك الصورة كلمة لأنها مفهومية العقل ونطقه، وقيل لها حكمة لأنه كان مولودا من الأب بفعل عقله الإلهي الذي هو حكمة، وقيل له نور وشعاع وضياء؛ لأنه حيث كان حكمة كان به معرفة حقائق الأشياء وانكشافها كالمذكورات، وقيل للثالث روح قدس لأنه صادر من الأب والابن بفعل الإرادة التي هي واحدة للأب والابن، ومنبثق منهما بفعل هو كهيجان الإرادة بالحب نحو محبوبها فهو حب الله، والله نفسه هو الروح الصرف والتقدس عينه، ولكل من الأول والثاني وجه لأن يدعى روحا لمكان الاتحاد، لكن لما دعي الأول باسم يدل على رتبته وإضافته إلى الثاني والثاني كذلك اختص الثالث بالاسم المشاع ولم يدع ابنا وإن كان له طبيعة الأب وجوهره كالابن لأنه لم يصدر من الأب بفعل يقتضي شبه فاعله، يعني بفعل العقل، بل صدر منه فعل الإرادة فالثاني من الأول كهابيل من آدم، والثالث كحواء منه والكل حقيقة واحدة لكن يقال لهابيل ابن ولا يقال لها بنت، وقيل له مغزى؛ لأنه كان عتيدا لأن يأتي الحواريين فيغريهم لفقد المسيح عليه السلام، وأما الفاعلية والمفعولية فلأنهما غير موجودين حقيقة، والأبوة والنبوة هاهنا لا تقتضيهما كما في المحدثات؛ ولذا لا يقال هنا للأب علة وسبب لابنه وإن قيل هناك فالثلاثة متساوية في الجوهر والذات واستحقاق العبادة والفضل من كل وجه. ثم إنهم زعموا تجسد الأقنوم الثاني وهو الكلمة واتحاده بأشرف أجزاء البتول من الدم بقوة روح القدس فكان المسيح عليه السلام المركب من الناسوت والكلمة، والكلمة مع اتحادها لم تخرج عن بساطتها ولم تتغير لأنها الحد الذي ينتهي إليه الاتحاد فلا مانع في جهتها من الاتحاد، وكذا لا مانع في جانب الناسوت فلا يتعاصى الله تعالى شيء. زعموا أن المسيح عليه السلام كان إلها تاما وإنسانا تاما ذا طبيعتين ومشيئتين قائمتين بأقنوم إلهي وهو أقنوم الكلمة ومن ثم تحمل عليه الصفات الإلهية والبشرية معا لكن من حيثيتين، ثم إنهم زادوا في الطنبور رنة وقالوا: إن المسيح أطعم يوما الحواريين خبزا وسقاهم خمرا فقال: (أكلتم لحمي وشربتم دمي فاتحدتم معي، وأنا متحد مع الأب). إلى رنات أخر هي أشهر من أن تذكر.
ويعلم مما ذكرنا أنه لا فرق عندهم بين أن يقال: إن الله تعالى هو المسيح. وبين أن يقال: إن المسيح ابنه. وبين أن يقال: إنه سبحانه ثالث ثلاثة. ولذا جاء في التنزيل كل من هذه الأقوال منسوبا إليهم ولا حاجة إلى جعل كل قول لقوم منهم كما قال غير واحد [ ص: 277 ] من المفسرين والمتكلمين، ثم لا يخفى منافاة ما ذكروه للأحدية والصمدية، وقولهم: إن الأقانيم مع كونها ثلاث جواهر متمايزة تمايزا حقيقيا جوهر واحد لبداهة بطلانه لا يسمن ولا يغني.
وما يذكرونه من المثال لإيضاح ذلك فهو عن الإيضاح بمعزل وبعيد عن المقصود بألف ألف منزل. وكنا ذكرنا في ضمن هذا الكتاب ما يتعلق ببعض عقائدهم مع رده إلا أنه كان قبل النظر في كتبهم وقد اعتمدنا فيه ما ذكره المتكلمون عنهم واليوم لنا عزم على تأليف رسالة تتضمن تحرير اعتقاداتهم في الواجب تعالى وذكر شبههم العقلية والنقلية التي يستندون إليها ويعولون في التثليث عليها حسبما وقفنا عليه في كتبهم، مع ردها على أكمل وجه إن شاء الله تعالى. ونسأل الله تعالى التوفيق لذلك. وأن يسلك سبحانه بنا في جميع أمورنا أقوم المسالك؛ فهو سبحانه الجواد الأجود الذي لم يجبه من توجه إليه بالرد.