من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان
وظاهر كلام الكشاف الاكتفاء بتقدير الفاء، وقدر بعضهم مبتدأ معها أي: (فأنتم يدرككم) وقيل: هو مؤخر من تقديم، وجواب الشرط محذوف، أي: يدرككم الموت أينما تكونوا يدرككم، واعترض بأن هذا إنما يحسن فيما إذا كان ما قبله طالبا له، كما في قوله:يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع
وقيل: (إن يدرككم) كلام مبتدأ و(أينما تكونوا) متصل بـ(تظلمون) واعترض - كما قال -: بأنه ليس بمستقيم معنى وصناعة، أما الأول فلأنه لا يناسب اتصاله بما قبله؛ لأن (لا تظلمون فتيلا) المراد منه في الآخرة، فلا يناسبه التعميم، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه عمل ما قبل اسم الشرط فيه، وهو غير صحيح لصدارته، وأجيب عن الأول بأنه لا مانع من تعميم (ولا تظلمون) للدنيا والآخرة، أو يكون المعنى: لا ينقصون شيئا من مدة الأجل المعلوم، لا من الأجود، وبه ينتظم الكلام، وعن الثاني بأن المراد من الاتصال بما قبله - كما قال الشهاب الحلبي والسفاقسي - اتصاله به معنى لا عملا على أن (أينما تكونوا) شرط جوابه محذوف، تقديره (لا تظلمون) وما قبله دليل الجواب.
وأنت تعلم أن هذا التخريج - وإن التزم الذب عنه بما ترى - خلاف الظاهر المنساق إلى الذهن، وأولى التخريجات أنه على حذف الفاء، وهو الذي اختاره والقول بأن الحذف ضرورة في حيز المنع. المبرد،
ولو كنتم في بروج أي قصور، قاله مجاهد، وقتادة، وعن وابن جريج، السدي والربيع رضي الله تعالى عنهم: أنها قصور في السماء الدنيا، وقيل: المراد بها بروج السماء المعلومة، وعن أبي علي الجبائي أنها البيوت التي فوق القصور، وعن رضي الله تعالى عنهما: أنها الحصون والقلاع، وهي جمع، ج، وأصله من التبرج وهو الإظهار، ومنه: تبرجت المرأة إذا أظهرت حسنها ابن عباس مشيدة أي: مطلية بالشيد وهو الجص قاله أو مطولة بارتفاع قاله عكرمة، فهو من شيد البناء إذا رفعه، وقرأ الزجاج، (مشيدة) بفتح الميم وتخفيف الياء، كما في قوله تعالى: مجاهد: وقصر مشيد وقرأ أبو نعيم بن ميسرة: (مشيدة) بكسر الياء على التجوز، كـ(عيشة راضية) وقصيدة شاعرة، والجملة المعطوفة [ ص: 88 ] على أخرى مثلها، أي: لو لم تكونوا في بروج ولو كنتم إلخ، وقد اطرد الحذف في مثل ذلك لوضوح الدلالة.
وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك نزلت على ما روي عن الحسن، في اليهود، وذلك وابن زيد أنهم كانوا قد بسط عليهم الرزق، فلما قدم النبي- صلى الله عليه وسلم - المدينة فدعاهم إلى الإيمان فكفروا، أمسك عنهم بعض الإمساك، فقالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل، فالمعنى: إن تصبهم نعمة أو رخاء نسبوها إلى الله تعالى، وإن تصبهم بلية من جدب وغلاء أضافوها إليك متشائمين، كما حكي عن أسلافهم بقوله تعالى: وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه وإلى هذا ذهب الزجاج، والفراء، والبلخي، والجبائي.
وقيل: نزلت في المنافقين ابن أبي وأصحابه، الذين تخلفوا عن القتال يوم أحد، وقالوا للذين قتلوا: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فالمعنى: إن تصبهم غنيمة قالوا: هي من عند الله تعالى، وإن تصبهم هزيمة قالوا: هي من سوء تدبيرك، وهو المروي عن ابن عباس، وقتادة.
وقيل: نزلت فيمن تقدم، وليس بالصحيح، وصحح غير واحد أنها نزلت في اليهود والمنافقين جميعا، لما تشاءموا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم -حين قدم المدينة، وقحطوا، وعلى هذا فالمتبادر من الحسنة والسيئة هنا النعمة والبلية، وقد شاع استعمالها في الطاعة والمعصية، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين، وأيد بإسناد الإصابة إليهما، بل جعله صاحب الكشف دليلا بينا عليه، وبأنه أنسب بالمقام لذكر الموت والسلامة قبل.
وقوله تعالى: قل كل من عند الله أمر له- صلى الله عليه وسلم -بأن يرد زعمهم الباطل، واعتقادهم الفاسد، ويرشدهم إلى الحق ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال، أي: كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في قوع شيء منها بوجه من الوجوه - كما تزعمون - بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلي بها عقوبة، كما سيأتي بيانه.
وهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل ردا على أسلاف اليهود من قوله تعالى: إنما طائرهم عند الله أي إنما سبب خيرهم وشرهم عند الله تعالى لا عند غيره، حتى يستند ذلك إليه ويطيروا به، قاله شيخ الإسلام، ومنه يعلم اندفاع ما قيل: إن القوم لم يعتقدوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعل السيئة كما اعتقدوا أن الله تعالى فاعل الحسنة، بل تشاءموا به وحاشاه عليه الصلاة والسلام، فكيف يكون هذا ردا عليهم، ولا حاجة إلى ما أجاب به العلامة الثاني من أن الجواب ليس مجرد قوله تعالى: قل كل من عند الله بل هو إلى قوله سبحانه: وما أصابك من سيئة إلخ.
وقوله تعالى: فمال هؤلاء القوم أي: اليهود والمنافقين والمحتقرين لا يكادون يفقهون أي يفهمون حديثا . أي كلاما يوعظون به وهو القرآن، أو كلاما ما، أو كل شيء حدث وقرب عهده، كلام من قبله تعالى معترض بين المبين وبيانه، مسوق لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم، والتعجيب من كمال غباوتهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والجملة المنفية حالية، والعامل فيها ما في الظرف من الاستقرار، أو الظرف نفسه، والمعنى حيث كان الأمر كذلك فأي شيء حصل لهؤلاء حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا نصوص القرآن الناطقة بأن الكل فائض من عند الله تعالى، أو بمعزل من أن يفهموا (حديثا) مطلقا، حتى عدوا كالبهائم التي لا أفهام لها، أو بمعزل من أن يعقلوا صروف الدهر وتغيره حتى يعلموا أنه لها فاعلا حقيقيا بيده جميع الأمور، ولا مدخل [ ص: 89 ] لأحد معه.
ويجوز أن تكون الجملة استئنافا مبنيا على سؤال نشأ من الاستفهام، وهو ظاهر، وعلى التقديرين فالكلام مخرج مخرج المبالغة في عدم فهمهم، فلا ينافى اعتقادهم أن الحسنة من عند الله تعالى.
ويفهم من كلام بعضهم أن المراد من الحديث هو ما تفوهوا به آنفا، حيث إنه يلزم منه تعدد الخالق، المستلزم للشرك، المؤدي إلى فساد العالم، وأن (ما) في حيز الأمر رد لهذا اللازم، وقدم لكونه أهم، ثم استؤنف بما هو حقيقة الجواب، أعني قوله سبحانه: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وعلى ما ذكرنا - ولعله الأولى - يكون هذا بيانا للجواب المجمل المأمور به، والخطاب فيه -كما قال وروي عن الجبائي -: عام لكل من يقف عليه لا للنبي- صلى الله عليه وسلم -كقوله: قتادة
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
و(ما) - كما قال - شرطية و(أصاب) بمعنى يصيب، والمراد بالحسنة والسيئة هنا ما أريد بهما من قبل، أي: ما أصابك أيها الإنسان من نعمة من النعم فهي من الله تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك، كيف لا وكل ما يفعله العبد من الطاعات التي يرجى كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمة الوجود أو نعمة الإقدار على أدائها مثلا، فضلا عن أن تستوجب نعمة أخرى، ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم، فيما أخرجه الشيخان من حديث أبو البقاء أبي هريرة: «لن يدخل أحدا عمله الجنة قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى بفضل رحمته».
(وما أصابك من) بلية من البلايا فهي بسبب اقتراف نفسك المعاصي والهفوات المقتضية لها، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى، نازلة من عنده عقوبة، وهذا كقوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير .
وأخرج عن الترمذي، أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو ما دونها إلا بذنب، وما يعفو الله تعالى عنه أكثر».
وأخرج عن ابن أبي حاتم، أنه قال في الآية: «ما كان من نكبة فبذنبك، وأنا قدرت ذلك عليك». ابن عباس،
وعن أبي صالح، مثله.
وقال الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمقصود منه الأمة، وقيل: له عليه الصلاة والسلام، لكن لا لبيان حاله، بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير، ولعل العدول عن خطابهم لإظهار كمال السخط والغضب عليهم، والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب، لاسيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة. الزجاج:
ثم اعلم أنه لا حجة لنا ولا للمعتزلة في مسألة الخير والشر بهاتين الآيتين؛ لأن إحداهما بظاهرها لنا والأخرى لهم، فلا بد من التأويل، وهو مشترك الإلزام، ولأن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية، والخلاف في الثاني، ولا تعارض بينهما أيضا لظهور اختلاف جهتي النفي والإثبات.
وقد أطنب الإمام في هذا المقام كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح، واختار تفسير الحسنة والسيئة بما يعم النعم والطاعات والمعاصي والبليات. الرازي
وقال بعضهم: يمكن أن يقال: لما جاء قوله تعالى: [ ص: 90 ] وإن تصبهم حسنة بعد قوله سبحانه: أينما تكونوا يدرككم الموت ناسب أن تحمل الحسنة الأولى على النعمة، والسيئة على البلية،