إن الذين توفاهم الملائكة بيان لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيان القاعدين عن الجهاد، أو بيان لحال القاعدين عن نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجهاد معه من المنافقين عقب بيان حال القاعدين من المؤمنين و(توفاهم) يحتمل أن يكون ماضيا، وتركت علامة التأنيث للفصل، ولأن الفاعل غير مؤنث حقيقي، ويحتمل أن يكون مضارعا وأصله (تتوفاهم) فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، وهو لحكاية الحال الماضية، ويؤيد الأول قراءة من قرأ (توفتهم) والثاني قراءة إبراهيم (توفاهم) بضم التاء على أنه مضارع (وفيت) بمعنى أن الله تعالى يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها، وإلى ذلك أشار والمراد من التوفي قبض الروح، وهو الظاهر الذي ذهب إليه ابن جني، رضي الله تعالى عنه. ابن عباس،
وعن أن المراد به الحشر إلى النار، والمراد من الملائكة الحسن ملك الموت وأعوانه، وهم كما في البحر ستة: ثلاثة لأرواح المؤمنين، وثلاثة لأرواح الكافرين، وعن الجمهور أن المراد بهم ملك الموت فقط، وهو من إطلاق الجمع مرادا به الواحد؛ تفخيما له وتعظيما لشأنه، ولا يخفى أن اطلاق الجمع على الواحد لا يخلو عن بعد، والتحقيق أنه لا مانع من نسبة التوفي إلى الله تعالى وإلى ملك الموت وإلى أعوانه، والوجه في ذلك أن الله تعالى هو الآمر، بل هو الفاعل الحقيقي، والأعوان هم المزاولون لإخراج الروح من نحو العروق والشرايين والعصب، والقاطعون لتعلقها بذلك، والملك هو القابض المباشر لأخذها بعد تهيئتها، وفي القرآن الله يتوفى الأنفس ، و يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ، و توفته رسلنا ومثله توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفار الموجبة للاخلال بأمور الدين، أو بنفاقهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإعانتهم الكفرة.
فقد أخرج عن الطبراني، أنه كان قوم ابن عباس، بمكة قد أسلموا، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كرهوا أن يهاجروا، وخافوا، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وأخرج عن ابن جرير، «إن هؤلاء أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضحاك: بمكة فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر، فأصيبوا فيمن أصيب، فأنزل الله فيهم هذه الآية».
وروي عن «أن الآية نزلت في عكرمة: قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحرث بن زمعة بن الأسود، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبي العاص بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر مع المشركين من قريش فقتلوا هناك كفارا»، ورواه أبو الجارود، عن رضي الله تعالى عنه. أبي جعفر،
و " ظالمي " منصوب على الحالية من ضمير المفعول في (توفاهم) وإضافته لفظية فلا تفيده تعريفا، والأصل (ظالمين أنفسهم).
قالوا أي: الملائكة - عليهم السلام - للمتوفين توبيخا لهم بتقصيرهم في إظهار إسلامهم وإقامة أحكامه وشعائره، أو قالوا تقريعا لهم وتوبيخا بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة وتكثير سوادهم وانتظامهم في عسكرهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيم كنتم أي: في أي شيء كنتم من أمور دينكم، وحذفت ألف ما الاستفهامية المجرورة وفاء بالقاعدة، وتكتب متصلة تنزيلا لها مع ما قبلها منزلة الكلمة الواحدة، ولهذا تكتب: إلى وعلى وحتى [ ص: 126 ] في إلام وعلا م وحتى م بالألف ما لم يوقف على م بالهاء.
ولكن السؤال كما علمت طابقه الجواب بقوله تعالى: قالوا كنا مستضعفين في الأرض وإلا فالظاهر في الجواب كنا في كذا، أو لم نكن في شيء، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة، كأنه قيل: فماذا قال أولئك المتوفون في الجواب؟ فقيل: قالوا في جوابهم: كنا مستضعفين في أرض مكة بين ظهراني المشركين الأقرباء.
والمراد أنهم اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار الإسلام، وإدخالهم الخلل فيه بالاستضعاف والعجز عن القيام بمواجب الدين بين أهل مكة، فلذا قعدوا وناموا، أو تعللوا عن الخروج معهم، والانتظام في ذلك الجمع المكسر بأنهم كانوا مقهورين تحت أيديهم، وأنهم فعلوا ذلك كارهين، وعلى التقديرين لم تقبل الملائكة ذلك منهم، كما يشير إليه قوله سبحانه: قالوا أي: الملائكة ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها أي: إن عذركم عن ذلك التقصير بحلولكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير، إذ يمكنكم حل عقدة هذا الأمر الذي أحل بدينكم بالرحيل إلى قطر آخر من الأرض، تقدرون فيه على إقامة أمور الدين، كما فعل من هاجر إلى الحبشة، وإلى المدينة، أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء الله تعالى لما يغيظ رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنكم مقهورون بين أولئك الأقوام غير مقبول؛ لأنكم بسبيل من الخلاص عن قهرهم، متمكنون من المهاجرة عن مجاورتهم والخروج من تحت أيديهم فأولئك الذين شرحت حالهم الفظيعة مأواهم أي: مسكنهم في الآخرة جهنم لتركهم الفريضة المحتومة، فقد كانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام.
وعن كان يقول: من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، والأصح الأول، أو لنفاقهم وكفرهم ونصرتهم أعداء الله تعالى على سيد أحبائه - عليه الصلاة والسلام - وعدم التقييد بالتأييد ليس نصا في العصيان بما دون الكفر، وإنما النص التقييد بعدمه، واسم الإشارة مبتدأ أول، و(مأواهم) مبتدأ ثان و(جهنم) خبر الثاني وهما خبر الأول، والرابط الضمير المجرور، والمجموع خبر (إن)، والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط وقوله سبحانه: (قالوا فيم كنتم) في موضع الحال من الملائكة، و(قد) معه مقدرة في المشهور، وجعله حالا من الضمير المفعول بتقدير قد أولا ولهم آخرا بعيد، أو هو الخبر والعائد فيه محذوف أي لهم، والجملة المصدرة بالفاء معطوفة عليه مستنتجة منه ومما في خبره، ولا يصح جعل شيء من قالوا الثاني والثالث خبرا؛ لأنه جواب ومراجعة، فمن قال: لو جعل قالوا الثاني خبرا لم يحتج إلى تقدير عائد فقد وهم، وقيل: الخبر محذوف، تقديره هلكوا ونحوه، و(تهاجروا) منصوب في جواب الاستفهام، وقوله تعالى: (وساءت) من باب بئس أي: بئست (مصيرا)، والمخصوص بالذم مقدر، أي: مصيرهم أو جهنم. السدي
واستدل بعضهم بالآية على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه، وهو مذهب الإمام ونقل مالك، ابن العربي وجوب الهجرة من البلاد الوبيئة أيضا، وفي كتاب الناسخ والمنسوخ أنها كانت فرضا في صدر الإسلام فنسخت، وبقي ندبها.
وأخرج من حديث الثعلبي مرسلا: الحسن «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم، ونبيه محمد، صلى الله عليه وسلم».
وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر.