أما في قوله سبحانه: ويستفتونك في النساء إلى قوله - عز وجل – وكان الله واسعا حكيما فقد قال فيه: إن النفس للروح كالمرآة للزوج، و النيسابوري يتامى النساء صفات النفوس و ما كتب لهن ما أوجب الله تعالى من الحقوق
وحاصل المعنى: إن نفسك مطيتك فارفق بها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح فالروح تشح بترك حقوق الله تعالى، والنفس تشح بترك حظوظها فلا تميلوا كل الميل في رفض حظوظ النفس، فقد جاء في الخبر: «إن لنفسك عليك حقا» فتذروها كالمعلقة بين العالم العلوي والعالم السفلي وإن يتفرقا أي: الروح والنفس يغن الله كلا من سعته فالروح يجتذب بجذبة (خل نفسك وائتني إلى سعة غنى الله تعالى في عالم هويته) فيستغنى عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود، والنفس تجتذب بجذبة ارجعي إلى ربك إلى سعة غنى الله تعالى في عالم فادخلي في عبادي وادخلي جنتي انتهى، ولا يخفى أن باب التأويل واسع، وما ذكره ليس بمتعين، فيمكن أن تجعل الآية في شأن الشيخ والمريد.
وأما في قوله: يا أيها الذين آمنوا كونوا إلخ فنقول: إنه سبحانه أمر المؤمنين بالتوحيد العلمي المريدين لثواب الدارين أن يكونوا ثابتين في مقام العدالة التي [ ص: 181 ] هي أشرف الفضائل قوامين بحقوقها بحيث تكون ملكة راسخة فيهم، لا يمكن معها جور في شيء، ولا ظهور صفة نفس لاتباع هوى في جلب نفع دنيوي أو رفع مضرة كذلك، ثم قال جل وعلا: يا أيها الذين آمنوا من حيث البرهان آمنوا من حيث البيان، إلى أن تؤمنوا من حيث العيان، أو يا أيها الذين آمنوا بالإيمان التقليدي آمنوا بالإيمان العيني، أو المراد: يا أيها المدعون تجريد الإيمان لي من غير وساطة لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين التجريد إلا بقبول الوسائط، فالآية إشارة إلى الفرق بعد الجمع.
إن الذين آمنوا بالتقليد ثم كفروا إذ لم يكن للتقليد أصل ثم آمنوا بالاستدلال العقلي ثم كفروا إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي ثم ازدادوا كفرا بالشبهات والاعتراضات، وقد يكون ذلك إشارة إلى وصف أهل التردد في سلوك سبيل أولياء الله تعالى والإيمان بأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رياسة القوم، فلما جن عليهم ليل المجاهدات لم يتحملوا، وأنكروا، ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم، ولما رأوا نهاية الأكابر وظنوا اللحوق بهم لو استقاموا وآمنوا فلما لم يصلوا إلى شيء من مقامات القوم وكراماتهم لعدم إخلاصهم وسوء استعدادهم ارتدوا وصاروا منكرين عليهم وعلى مقاماتهم، وازدادوا إنكارا حين رجعوا إلى اللذات والشهوات، واختاروا الدنيا على الآخرة، وجعلوا يقولون للخلق: إن هؤلاء ليسوا على الحق، فقد سلكنا ما سلكوا، وخضنا ما خاضوا فلم نر إلا سرابا بقيعة، وهذا حال كثير من علماء السوء المنكرين على القوم قدس الله أسرارهم.
(ما كان الله ليغفر لهم) لمكان الريب الحاجب، وفساد جوهر القلب، وزوال الاستعداد ولا ليهديهم سبيلا إلى الحق، ولا إلى الكمال لعدم قبولهم ذلك الذين يتخذون الكافرين أولياء لمناسبتهم إياهم، وشبيه الشيء منجذب إليه من دون المؤمنين لعدم الجنسية أيبتغون عندهم العزة أي: يطلبون التعزز بهم في الدنيا، والتقوي بمالهم وجاههم فإن العزة لله جميعا فلا سبيل لهم إليها إلا منه سبحانه عز وجل.
ثم ذكر سبحانه من وصف المنافقين أنهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى لعدم شوقهم إلى الحضور، ونفورهم عنه؛ لعدم استعدادهم واستيلاء الهوى عليهم يراءون الناس لاحتجاجهم بهم عن رؤية الله تعالى ولا يذكرون الله إلا قليلا لأنهم لا يذكرونه إلا باللسان، وعند حضورهم بين الناس، بخلاف المؤمنين الصادقين، فإنهم إذا قاموا إلى الصلاة يطيرون إليها بجناحي الرغبة والرهبة، بل يحنون إلى أوقاتها:
حنين أعرابية حنت إلى أطلال نجد فارقته ومرخه
ومن هنا لبلال: «أرحنا يا بلال» يريد - عليه الصلاة والسلام - أقم لنا الصلاة لنصلي ونستريح بها لا منها، وظن الأخير برسول الله - صلى الله عليه وسلم – كفر، والعياذ بالله تعالى، وإذا عبدوا لا يرون إلا الله تعالى، وما قدر السوى عندهم ليراءوه، وإن كل جزء منهم يذكر الله تعالى، نعم، إنهم قد يشتغلون به عنه فهناك لا يتأتى لهم الذكر، وقد عد العارفون الذكر لأهل الشهود ذنبا، ولهذا قال قائلهم: كان صلى الله تعالى عليه وسلم يقولبذكر الله تزداد الذنوب وتنكشف الرذائل والعيوب
وترك الذكر أفضل كل شيء وشمس الذات ليس لها مغيب
لا يترك الذكر إلا من يشاهده وليس يشهده من ليس يذكره
والذكر ستر على مذكوره ستر فحين يذكره في الحال يستره
فلا أزال على الأحوال أشهده ولا أزال على الأنفاس أذكره