ولا يخفى أن ما قاله عطاء أقرب إلى المعنى الحقيقي؛ لأن حقيقة اللعن في اللغة الطرد والإبعاد، فاستعماله في المعنيين الأخيرين مجاز باستعماله في لازم معناه، وهو الحقارة بما ذكر لكنه لا قرينة في الكلام عليه، وتخصيص البيان بما ذكر مع أن حقه أن يبين بعد بيان تحقق اللعن والنقض، بأن يقال مثلا: فنقضوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هلية الشيء البسيطة على هليته المركبة - كما قال شيخ الإسلام - للإيذان بأن تحققهما أمر جلي غني عن البيان، وإنما المحتاج إلى ذلك ما بينهما من السببية والمسببية وجعلنا قلوبهم قاسية يابسة غليظة، تنبو عن قبول الحق، ولا تلين، قاله ، رضي الله تعالى عنهما. ابن عباس
وقيل: المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم، حتى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، وهذا كما تقول لغيرك: أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدئ، وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها.
وقال : المعنى بينا عن حال قلوبهم وما هي عليه من القساوة، وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنفع فيهم موعظة ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وما دعا إليه إلا الاعتزال. الجبائي
وقرأ حمزة ( قسية ) وهي إما مبالغة قاسية لكونه على وزن فعيل، أو بمعنى ردية من قولهم: درهم قسي إذا كان مغشوشا، وهو أيضا من القسوة فإن المغشوش فيه يبس وصلابة، وقيل: إن ( قسي ) غير عربي، بل معرب، وقرئ: ( قسية ) بكسر القاف للإتباع. والكسائي
يحرفون الكلم عن مواضعه استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم، فإنه لا مرتبة أعظم مما ينشأ عنه الاجتراء على تحريف كلام رب العالمين، والافتراء عليه - عز وجل - والتعبير بالمضارع للحكاية، واستحضار الصورة، وللدلالة على التجدد والاستمرار، وجوز أن يكون حالا من مفعول ( لعناهم ) أو من المضاف إليه في ( قلوبهم ) وضعف بما ضعف وجعله حالا من القلوب أو من ضميره في ( قاسية ) - كما قيل – لا يصح لعدم العائد منه إلى ذي الحال، وجعل القلوب بمعنى أصحابها مما لا يلتفت إليه أصحابها ونسوا حظا أي: تركوا نصيبا وافيا، واستعمال النسيان بهذا المعنى كثير مما ذكروا به من التوراة، أو مما أمروا به فيها من اتباع محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم.
[ ص: 90 ] وقيل: حرفوا التوراة فسقطت بشؤم ذلك أشياء منها عن حفظهم.
وأخرج ، ابن المبارك في الزهد، عن وأحمد قال: « إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها » وفي معنى ذلك قول ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -: الشافعي
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور
ونور الله لا يهدى لعاصي
( ولاتزال تطلع على خائنة منهم ) أي: خيانة، كما قرئ به على أنها مصدر على وزن فاعلة كالكاذبة واللاغية، أو فعلة ( خائنة ) أي: ذات خيانة، وإلى ذلك يشير كلام - رضي الله تعالى عنهما - أو فرقة ( خائنة )، أو نفس ( خائنة )، أو شخص ( خائنة ) على أنه وصف والتاء للمبالغة، لكنها في ( فاعل ) قليلة، و( منهم ) متعلق بمحذوف وقع صفة لها، خلا أن ( من ) على الوجهين الأولين ابتدائية، أي: على خيانة أو فعلة ذات خيانة كائنة منهم صادرة عنهم، وعلى الأوجه الأخر تبعيضية، والمعنى إن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم، كما يعلم من وصفهم بالتحريف وما معه، بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها، فلا تزال ترى ذلك منهم ابن عباس إلا قليلا منهم استثناء من الضمير المجرور في ( منهم ) والمراد بالقليل وأضرابه، الذين نصحوا لله تعالى ورسوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وجعله بعضهم استثناء من ( خائنة ) على الوجه الثاني، فالمراد بالقليل الفعل القليل، و( من ) ابتدائية كما مر، أي: إلا قليلا كائنا منهم، وقيل: الاستثناء من قوله تعالى: ( وجعلنا قلوبهم قاسية ). عبد الله بن سلام
فاعف عنهم واصفح أي: إذا تابوا أو بذلوا الجزية، كما روي عن الحسن وجعفر بن مبشر ، واختاره ، فضمير ( عنهم ) راجع إلى ما رجع إليه نظائره، وعن الطبري أنه عائد على القليل المستثنى، أي: فاعف عنهم ما داموا على عهدك، ولم يخونوك، وعلى القولين فالآية محكمة، وقيل: الضمير عائد على ما اختاره أبي مسلم ، وهي مطلقة، إلا أنها نسخت بقوله تعالى: الطبري قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله الآية.
وروي ذلك عن ، وعن قتادة أنها منسوخة بقوله تعالى: الجبائي وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ، إن الله يحب المحسنين تعليل للأمر، وحث على الامتثال، وتنبيه على أن العفو على الإطلاق من باب الإحسان.