يا أهل الكتاب التفات إلى خطاب الفريقين من اليهود والنصارى ، على أن الكتاب جنس صادق بالواحد [ ص: 97 ] والاثنين وما فوقهما، والتعبير عنهم بعنوان أهلية الكتاب للتشنيع؛ فإن أهلية الكتاب من موجبات مراعاته، والعمل بمقتضاه، وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا وهم يعلمون قد جاءكم رسولنا محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - والتعبير عنه بذلك مع الإضافة إلى ضمير العظمة للتشريف والإيذان بوجوب اتباعه عليه الصلاة والسلام يبين لكم حال من ( رسولنا ) وإيثار الفعلية للدلالة على تجدد البيان، أي: حال كونه مبينا لكم على سبيل التدريج حسبما تقتضيه المصلحة كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي التوراة والإنجيل، وذلك كنعت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وآية الرجم، وبشارة عيسى بأحمد ، عليهما الصلاة والسلام.
وأخرج ، عن ابن جرير أنه قال: « عكرمة إن نبي الله تعالى - صلى الله تعالى عليه وسلم - أتاه اليهود يسألونه عن الرجم، فقال عليه الصلاة والسلام: أيكم أعلم فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى - عليه الصلاة والسلام - والذي رفع الطور، وبالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرءوس، فحكم عليهم بالرجم، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وتأخير ( كثيرا ) عن الجار والمجرور لما مر غير مرة، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء، و( مما ) متعلق بمحذوف وقع صفة لـ( كثيرا ) و( ما ) موصولة اسمية، وما بعدها صلتها، والعائد محذوف و( من الكتاب ) حال من ذلك المحذوف، أي: يبين لكم كثيرا من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله، والعاكفون عليه.
ويعفو عن كثير أي: ولا يظهر كثيرا مما تخفونه، إذا لم تدع إليه داعية دينية صيانة لكم عن زيادة الافتضاح، وقال : أي: يصفح عن كثير منكم، ولا يؤاخذه إذا تاب واتبعه، وأخرج الحسن ابن حميد ، عن مثله. قتادة
واعترض أنه مخالف للظاهر؛ لأن الظاهر أن يكون هذا الكثير كالكثير السابق، وفيه نظر، كما قال ؛ لأن النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة، نعم، اختار الأول الشهاب وجماعة المفسرين، والجملة معطوفة على الجملة الحالية، داخلة في حكمها الجبائي قد جاءكم من الله نور عظيم، وهو نور الأنوار، والنبي المختار - صلى الله تعالى عليه وسلم - وإلى هذا ذهب ، واختاره قتادة ، وقال الزجاج : عنى بالنور القرآن لكشفه وإظهاره طرق الهدى واليقين، واقتصر على ذلك أبو علي الجبائي ، وعليه فالعطف في قوله تعالى: الزمخشري وكتاب مبين لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات، وأما على الأول فهو ظاهر.
وقال الطيبي : إنه أوفق لتكرير قوله سبحانه: ( قد جاءكم ) بغير عاطف، فعلق به أولا وصف الرسول والثاني وصف الكتاب، وأحسن منه ما سلكه حيث قال: بين في الآية الأولى والثانية النعم الثلاث التي خص بها العباد: النبوة والعقل والكتاب، وذكر في الآية الثالثة ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدم، ( فيهدي به ) إلى آخره يرجع إلى قوله سبحانه: ( قد جاءكم رسولنا )، ( يخرجهم ) إلخ يرجع إلى قوله تعالى: ( قد جاءكم نور )، ( يهديهم ) يرجع إلى قوله عز شأنه: ( وكتاب مبين ) كقوله: الراغب هدى للمتقين انتهى.
وأنت تعلم أنه لا دليل لهذا الإرجاع سوى اعتبار الترتيب اللفظي، ولو أرجعت الأحكام الثلاثة إلى الأول لم يمتنع، ولا يبعد عندي أن يراد بالنور والكتاب المبين النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - والعطف عليه كالعطف على ما قاله ، ولا شك في صحة إطلاق كل عليه - عليه الصلاة والسلام - ولعلك تتوقف في قبوله من باب [ ص: 98 ] العبارة، فليكن ذلك من باب الإشارة، والجار والمجرور متعلق بـ( جاء ) و( من ) لابتداء الغاية مجازا، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من ( نور ) وتقديم ذلك على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجيء من جهته تعالى العالية، والتشويق إلى الجائي؛ ولأن فيه نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم، والمبين من ( بان ) اللازم بمعنى ظهر، فمعناه الظاهر الإعجاز، ويجوز أن يكون من المتعدي فمعناه: المظهر للناس ما كان خافيا عليهم. الجبائي