وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به، والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به، وتنبيه على أن ذلك التحكيم لم يكن لمعرفة الحق، وإنما هو لطلب الأهون، وإن يكن ذلك حكم الله تعالى بزعمهم فقوله سبحانه: وعندهم التوراة حال من فاعل ( يحكمونك ) وقوله تعالى: فيها حكم الله حال من التوراة، إن جعلت مرتفعة بالظرف، وكون ذلك ضعيفا لعدم اعتماد الظرف سهو؛ لأنه معتمد - كما قال السمين - على ذي الحال، لكن قال: جعل التوراة مرفوعا بالظرف المصدر بالواو محل نظر، ولعل وجهه أنها تجعله جملة مستقلة غير معتمدة، أو أنه لا يقرن بالواو، وإن جعلت مبتدأ فهو حال من ضميرها المستكن في الخبر؛ لأنه لا يصح مجيء الحال من المبتدأ عن . سيبويه
[ ص: 142 ] وقيل: استئناف مسوق لبيان أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، وأنثت التوراة معاملة لها - بعد التعريب - معاملة الأسماء العربية الموازنة لها كموماة ودوداة.
ثم يتولون عطف على ( يحكمونك ) داخل في حكم التعجيب؛ لأن التحكيم - مع وجود ما فيه الحق المغني عن التحكيم - وإن كان محلا للتعجب والاستبعاد، لكن مع الإعراض عن ذلك أعجب و( ثم ) للتراخي في الرتبة، وجوز الأجهوري كون الجملة مستأنفة غير داخلة في حكم التعجيب، أي ثم هم يتولون، أي عادتهم فيما إذا وضح لهم من الحق أن يعرضوا ويتولوا، والأول أولى.
وقوله سبحانه: من بعد ذلك أي من بعد أن يحكموك، تصريح بما علم لتأكيد الاستبعاد والتعجب، وقوله - عز وجل -: وما أولئك بالمؤمنين تذييل مقرر لفحوى ما قبله، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم قصدا إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح؛ إيماء إلى علة الحكم، مع الإشارة إلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تميز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة، أي ( وما أولئك ) الموصوفون بما ذكر ( بالمؤمنين ) بكتابهم لإعراضهم عنه، المنبئ عن عدم الرضا القلبي به أولا، وعن حكمك الموافق له ثانيا، أو بك وبه، وقيل: هذا إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود أنهم لا يؤمنون بالنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وبحكمه أصلا.
وقيل: المعنى وما أولئك بالكاملين؛ تهكما بهم