وقال الطيبي : ولو جعل هذا الكلام عطفا على ( فاحكم ) [ ص: 155 ] من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله سبحانه: واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك كان أحسن، ورد بأن ( أن ) هي المانعة من ذلك العطف، وأمر الإناطة ملتزم على كل حال.
وقال بعضهم: إنما كرر الأمر بالحكم؛ لأن الاحتكام إليه - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان مرتين: مرة في زنا المحصن، ومرة في قتيل كان بينهم، فجاء كل أمر في أمر، وحكي ذلك عن ، الجبائي والقاضي أبي يعلى ، ونون ( أن ) فيها الضم والكسر، والمنسبك من ( أن يفتنوك ) بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال، أي: واحذر فتنتهم لك وأن يصرفوك عن بعض ما أنزل الله تعالى إليك، ولو كان أقل قليل، بتصوير الباطل بصورة الحق.
وقال : بالكذب على التوراة في أن ذلك الحكم ليس فيها، وجوز أن يكون مفعولا من أجله، أي: احذرهم مخافة أن يفتنوك، وإعادة ( ما أنزل الله ) تعالى ( إليك ) لتأكيد التحذير بتهويل الخطب، ولعل هذا لقطع أطماعهم، قاتلهم الله تعالى. ابن زيد
أخرج ، ابن أبي حاتم في الدلائل، عن والبيهقي - رضي الله تعالى عنهما - ابن عباس أن أحبار اليهود قالوا: «اذهبوا بنا إلى محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد ، قد عرفت أنا أحبار اليهود ، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم، وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك ونصدقك فأبى ذلك رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم – فنزلت».
فإن تولوا أي: أعرضوا عن قبول الحكم بما أنزل الله تعالى إليك، وأرادوا غيره فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وهو ذنب التولي والإعراض، فهو بعض مخصوص، والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن لهم ذنوبا كثيرة، وهذا - مع كمال عظمه - واحد من جملتها، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي، كما في قوله:
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
يريد بالبعض نفسه، أي نفسا كبيرة، ونفسا أي نفس، وقال : ذكر البعض وأريد الكل، كما يذكر العموم ويراد به الخصوص، وقيل: المراد بعض مبهم؛ تغليظا للعقاب، كأنه أشير إلى أنه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم أي بعض كان، ويهلكوا ويدمر عليهم بذلك. الجبائي
وزعم بعضهم أنه لا يصح إرادة الكل؛ لأن المراد بهذه الإصابة عقوبة الدنيا، وهي تختص ببعض الذنوب دون بعض، والذي يعم إنما هو عذاب الآخرة، وهذه الإصابة - على ما روي عن - إجلاء الحسن بني النضير، وقيل: قتل بني قريظة، وقيل: هي أعم من ذلك، وما عرى بني قينقاع، وأهل خيبر وفدك، ولعله الأولى.
وإن كثيرا من الناس لفاسقون أي متمردون في الكفر، مصرون عليه، خارجون من الحدود المعهودة، وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وفيه من التسلية للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم – ما لا يخفى، وقيل: إنه عطف على قوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها يعني كتبنا حكم القصاص في التوراة، وقررناه في الإنجيل، وأنزلنا عليك الكتاب مصدقا لما فيهما ( وإن كثيرا من الناس لفاسقون ) من الأحكام الإلهية المقررة في الأديان، ولا يخفى بعده، والمراد من الناس العموم، وقيل: اليهود .