إذ قال الله يا عيسى ابن مريم بدل من يوم يجمع الله الرسل وقد نصب بإضمار (اذكر) ، وقيل : في محل رفع على معنى ذاك إذ وليس بشيء، وصيغة الماضي لما مر آنفا من الدلالة على تحقق الوقوع، والمراد بيان ما جرى بينه تعالى وبين فرد من الرسل المجموعين على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه عز وجل وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج على تفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص عيسى عليه السلام بالذكر لما أن شأنه عليه الصلاة والسلام متعلق بكلا فريقي أهل الكتاب المفرطين والمفرطين الذين نعت هذه السورة الكريمة جناياتهم فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسراتهم، وإظهار الاسم الجليل لما مر، و (عيسى) مبني عند ومتابعيه إما على ضمة مقدرة أو على فتحة كذلك إجراء له مجرى يا زيد بن عمرو في جواز ضم المنادى وفتحه عند الجمهور، وهذا إذا أعرب (ابن) صفة الفراء لعيسى أما إذا أعرب بدلا أو بيانا فلا يجوز تقدير الفتحة إجماعا كما بين في كتب النحو، و(على) في قوله تعالى : اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك متعلقة بـ (نعمتي) جعل مصدرا أي اذكر إنعامي أو بمحذوف وقع حالا من نعمة أن جعل اسما أي اذكر نعمتي كائنة عليك إلخ، وعلى التقديرين يراد بالنعمة ما هو في ضمن المتعدد وليس المراد كما قال شيخ الإسلام بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفه عليه السلام بشكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج بل إظهار أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى واعتدادا بها وتلذذا بذكرها على رءوس الأشهاد وليكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخا للكفرة من الفريقين المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطا وتفريطا وإبطالا لقولهما جميعا، إذ أيدتك ظرف (لنعمتي) أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لكما أو حال منها أي اذكرها كائنة وقت ذلك، وقيل : بدل اشتمال منها وهو في المعنى تفسير لها
وجوز أن يكون مفعولا به على السعة وقرئ (آيدتك) بالمد، ووزنه عند أبو البقاء أفعلتك وعند الزمخشري فاعلتك، وقال ابن عطية : ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام أبو حيان العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل [ ص: 57 ] وإن كان يؤيد فهو أفعل، ومعناه ومعنى أيد واحد، وقيل : معناه بالمد القوة وبالتشديد النصر وهما -كما قيل- متقاربان لأن النصر قوة بروح القدس أي جبريل عليه السلام أو الكلام الذي يحيي به الدين، ويكون سببا للطهر عن أوضار الآثام أو تحيي بها الموتى أو النفوس حياة أبدية أو نفس روحه عليه السلام حيث أظهرها سبحانه وتعالى روحا مقدسة طاهرة مشرقة نورانية علوية، وكون هذا التأييد نعمة عليه عليه الصلاة و السلام مما لا خفاء فيه، وأما كونه نعمة على والدته فلما ترتب عليه من براءتها مما نسب إليها وحاشاها وغير ذلك
تكلم الناس في المهد أي طفلا صغيرا، وما في النظم الكريم أبلغ من التصريح بالطفولية وأولى لأن الصغير يسمى طفلا إلى أن يبلغ الحلم فلذا عدل عنه، والظرف في موضع الحال من ضمير (تكلم)
وجوز أن يكون ظرفا للفعل. والجملة إما استئناف مبين لتأييده عليه الصلاة و السلام أو في موضع الحال من الضمير المنصوب في (أيدتك) كما قال والمهد معروف. و عن أبو البقاء، أن المراد به حجر أمه عليهما السلام، وأنكر النصارى كلامه عليه الصلاة والسلام في المهد وقالوا إنما تكلم عليه السلام أوان ما يتكلم الصبيان. وقد تقدم مع جوابه الحسن
، وقوله تعالى : وكهلا للإيذان على ما قيل بعدم تفاوت كلامه عليه الصلاة والسلام طفولية وكهولة لا لأن كلا منهما آية فإن التكلم في الكهولة معهود من كل أحد. وقال الإمام : إن الثاني أيضا معجزة مستقلة لأن المراد تكلم الناس في الطفولة وفي الكهولة حين تنزل من السماء لأنه عليه الصلاة و السلام حين رفع لم يكن كهلا. وهذا مبني على تفسير الكهل بمن وخطه الشيب ورأيت له بجالة أو من جاوز أربعا وثلاثين سنة إلى إحدى وخمسين وعيسى عليه الصلاة والسلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين قيل وثلاثة أشهر وثلاثة أيام
وقيل : رفع وهو ابن أربع وثلاثين وما صح أنه عليه الصلاة والسلام وخطه الشيب وأما لو فسر بمن جاوز الثلاثين فلا يتأتى هذا القول كما لا يخفى
وقال بعض : الأولى أن يجعل وكهلا تشبيها بليغا أي تكلمهم كائنا في المهد وكائنا كالكهل وأنت تعلم أن أخذ التشبيه من العطف لا وجه له وتقدير الكاف تكلف، وإذ علمتك عطف على إذ أيدتك أي واذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك من غير معلم الكتاب والحكمة أي جنسهما، وقيل : الكتاب الخط والحكمة الكلام المحكم الصواب والتوراة والإنجيل خصا بالذكر إظهارا لشرفهما على الأول
وإذ تخلق أي تصور من الطين أي جنسه كهيئة الطير أي هيئة مثل هيئته بإذني فتنفخ فيها أي في تلك الهيئة المشبهة فتكون بعد نفخك من غير تراخ طيرا بإذني أي حيوانا يطير كسائر الطيور وقرأ نافع (طائرا) وهو إما اسم مفرد وإما اسم جمع كباقر وسامر ويعقوب
وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني عطف على (تخلق) وقوله سبحانه : وإذ تخرج الموتى بإذني عطف على (إذ تخلق) أعيدت فيه (إذ) كما قيل لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صاروا رميما معجزة [ ص: 58 ] باهرة حرية بتذكير وقتها صريحا، وما في النظم الكريم أبلغ "من تحي الموتى" فلذا عدل عنه إليه، وقد تقدم الكلام في بيان من أحياهم عليه الصلاة والسلام مع بيان ما ينفعك في هذه الآية في سورة آل عمران
وذكر (بإذني) هنا أربع مرات وثمة مرتين قالوا : لأنه هنا للامتنان وهناك للإخبار فناسب هذا التكرار هنا، وإذ كففت بني إسرائيل عنك يعني اليهود حين هموا بقتله ولم يتمكنوا منه
إذ جئتهم بالبينات أي المعجزات الواضحة مما ذكر وما لم يذكر وهو ظرف ل (كففت) مع اعتبار قوله تعالى : فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين
11
- وهو ما يدل على أنهم قصدوا اغتياله عليه الصلاة والسلام المحوج إلى الكف أي كففتهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئك إياهم بالبينات، ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة، فكلمة (من) بيانية وهذا إشارة إلى ما جاء به، وقرأ حمزة (إلا ساحر) فالإشارة إلى والكسائي عيسى عليه الصلاة والسلام وجعل الإشارة إليه على القراءة الأولى وتأويل السحر بساحر لتتوافق القراءتان لا حاجة إليه.