وحذف حرف النداء في الأول وعوض عنه الميم وكذا في الثاني إلا أن التعويض من خواص الاسم الجليل أي: يا الله يا ربنا أنزل علينا مائدة أي خوانا عليه طعام أو سفرة كذلك، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله سبحانه وتعالى من السماء [ ص: 61 ] متعلق إما بإنزال أو بمحذوف وقع صفة لمائدة أي كائنة من السماء والمراد بها إما المحل المعهود وهو المتبادر من اللفظ وإما جهة العلو، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن حميد عن وابن أبي حاتم عمار بن ياسر أن المائدة التي نزلت كان عليها من ثمر الجنة، وكذا روي عن وهب بن منبه
ويؤيد الثاني ما روي عن من خبر طويل أن المائدة لما نزلت قال سلمان الفارسي شمعون رأس الحواريين لعيسى عليه الصلاة والسلام: يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بسبب هذه الآية، فقال شمعون : لا وإله إسرائيل ما أردت بها سوءا يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا إنما هو شيء ابتدعه الله تعالى في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقال له كن فكان في أسرع من طرفة عين، فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم فإنه بديع قادر شاكر، وقوله تعالى: تكون لنا عيدا صفة (مائدة) و (لنا) خبر كان و (عيدا) حال من الضمير في الظرف أو في (تكون) على رأي من يجوز إعمالها في الحال، وجوز أن يكون (عيدا) الخبر و (لنا) حينئد إما حال من الضمير في (تكون) أو حال من (عيدا) لأنه صفة له قدمت عليه، والعيد العائد مشتق من العود، ويطلق على الزمان المعهود لعوده في كل عام بالفرح والسرور، وعليه فلا بد من تقدير مضاف، والمعنى يكون نزولها لنا عيدا، ويطلق على نفس السرور العائد وحينئذ لا يحتاج إلى التقدير، وفي الكلام لطافة لا تخفى، وذكر غير واحد أن العيد يقال لكل ما عاد عليك في وقت، ومنه قول الأعشى :
فوا كبدي من لاعج الحب والهوى إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها
وهو واوي كما ينبئ عنه الاشتقاق ولكنهم قالوا في جمعه : أعياد وكان القياس "أعواد" لأن الجموع ترد الأشياء إلى أصولها كراهة الاشتباه -كما قال ابن هشام- بجمع عود، ونظر ذلك الحريري بقولهم: هو أليط بقلبي منك أي ألصق حبا به فإن أصله الواو لكن قالوا ذلك ليفرق بينه وبين قولهم: هو ألوط من فلان، ولا يخفى أن هذا مخالف لما ذكره محققو أهل اللغة، وعن يقال : لاط الشيء بقلبي يلوط ويليط وهو ألوط وأليط، ثم إنهم إنما لم يعكسوا الأمر في جمع عود وعيد فيقولوا في جمع الأول : أعياد، وفي جمع الثاني: أعواد مع حصول التفرقة أيضا اعتبارا على ما قيل للأخف في الأكثر استعمالا مع رعاية ظاهر المفرد، وقرأ الكسائي عبد الله (تكن) بالجزم على جواب الأمر لأولنا وآخرنا أي لأهل زماننا ومن يجيء بعدنا. روي أنه نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا، وعن رضي الله تعالى عنه أن المعنى يأكل منها أول الناس وآخرهم، والجار والمجرور عند بعض بدل من الجار والمجرور أعني (لنا) ، وقال ابن عباس إذا جعل (لنا) خبرا أو حالا فهو صفة لعيدا وإن جعل صفة له كان هو بدلا من الضمير المجرور بإعادة الجار، وظاهره أن المبدل منه الضمير لكن أعيد الجار لأن البدل في قوة تكرار العامل، وهو تحكم لأن الظاهر كما أشير إليه إبدال المجموع من المجموع، ثم إن ضمير الغائب يبدل منه وأما ضمير الحاضر فأجازه بعضهم مطلقا وأجازه آخرون كذلك، وفصل قوم فقالوا إن أفاد توكيدا وإحاطة وشمولا جاز وإلا امتنع أبو البقاءواستظهر بعضهم على قول الحبر أن يكون (لنا) خبرا أي قوتا أو نافعة لنا. وقرأ زيد وابن محيصن [ ص: 62 ] والجحدري (لأولانا وأخرانا) بتأنيث الأول والآخر باعتبار الأمة والطائفة، وكون المراد بالأولى والأخرى الدار الأولى أي الدنيا والدار الأخرى أي الآخرة مما لا يكاد يصح وآية عطف على (عيدا) ، وقوله سبحانه وتعالى : منك متعلق بمحذوف وقع صفة له أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي وارزقنا أي الشكر عليها على ما حكى الجبائي أو المائدة على ما نقل عن غير واحد؛ والمراد بها حينئذ -كما قيل- ما على الخوان من الطعام أو الأعم من ذلك وهذه ولعله الأولى وأنت خير الرازقين
411
- تذييل جار مجرى التعليل أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا ملاحظة عوض