قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر الآية يعني: يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر والميسر وشربها ، وهذه أول آية نزلت فيها. والخمر كل ما خامر العقل فستره وغطى عليه ، من قولهم: خمرت الإناء إذا غطيته ، ويقال: هو في خمار الناس وغمارهم يراد به دخل في عرضهم فاستتر بهم ، ومن ذلك أخذ خمار المرأة لأنه يسترها ، ومنه قيل: هو يمشي لك الخمر أي مستخفيا ، قال العجاج:
في لامع العقبان لا يأتي الخمر يوجه الأرض ويستاق الشجر
يعني بقوله: لا يأتي الخمر، أي لا يأتي مستخفيا، لكن ظاهرا برايات وجيوش. فأما الميسر فهو القمار من قول القائل: يسر لي هذا الشيء يسرا وميسرا ، فالياسر اللاعب بالقداح ثم قيل للمقامر: ياسر ويسر كما قال الشاعر:
فبت كأنني يسر غبين يقلب بعدما اختلع القداحا
قل فيهما إثم كبير ومنافع قرأ حمزة ( ... كثير ) بالثاء. وفي إثمهما تأويلان: أحدهما: أن شارب الخمر يسكر فيؤذي الناس ، والكسائي أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم ، وهذا قول وإثم الميسر: والثاني: أن السدي. زوال عقل شاربها إذا سكر حتى يغرب عنه معرفة [ ص: 277 ] إثم الخمر
خالقه. وإثم الميسر: ما فيه من الشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، ووقوع العداوة والبغضاء كما وصف الله تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة [المائدة: 90] وهذا قول . ابن عباس
وأما قوله تعالى: ومنافع للناس أثمانها وربح تجارتها ، وما ينالونه من اللذة بشربها ، كما قال فمنافع الخمر حسان بن ثابت:
ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
وكما قال آخر:
فإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
وأما ففيه قولان: أحدهما: اكتساب المال من غير كد. والثاني: ما يصيبون من أنصباء الجزور ، وذلك أنهم كانوا يتياسرون على الجزور فإذا أفلح الرجل منهم على أصحابه نحروه ثم اقتسموه أعشارا على عدة القداح ، وفي ذلك يقول منافع الميسر أعشى بني ثعلبة:
وجزور أيسار دعوت إلى الندى أوساط مقفرة أخف طلالها
وهذا قول ابن عباس ومجاهد . ثم قال تعالى: والسدي وإثمهما أكبر من نفعهما فيه تأويلان: أحدهما: أن إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما بعد التحريم ، وهو قول . [ ص: 278 ] ابن عباس
والثاني: أن كلاهما قبل التحريم يعني الإثم الذي يحدث من أسبابهما أكبر من نفعهما ، وهو قول وفي قوله تعالى: سعيد بن جبير. ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ستة تأويلات: أحدها: بما فضل عن الأهل ، وهو قول . والثاني: أنه الوسط في النفقة ما لم يكن إسرافا أو إقتارا ، وهو قول ابن عباس . والرابع: إن العفو أن يؤخذ منهم ما أتوا به من قليل أو كثير ، وهو قول مروي عن الحسن أيضا. والخامس: أنه الصدقة عن ظهر غنى ، وهو قول ابن عباس والسادس: أنه الصدقة المفروضة وهو مروي عن مجاهد. أيضا. واختلفوا في هذه النفقة التي هي العفو هل نسخت؟ فقال مجاهد : نسخت بالزكاة. وقال ابن عباس هي ثابتة. واختلفوا في هذه الآية هل كان مجاهد بها أو بغيرها؟ فقال قوم من أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية. وقال تحريم الخمر وعليه أكثر العلماء: أنها حرمت بآية المائدة. وروى قتادة عبد الوهاب عن عن عوف أبي القلوص زيد بن علي قال: أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاث آيات فأول ما أنزل الله تعالى: يسألونك عن الخمر [ ص: 279 ] والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما فشربها قوم من المسلمين أو من شاء الله منهم حتى شربها رجلان ودخلا في الصلاة وجعلا يقولان كلاما لا يدري عوف ما هو ، فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فشربها من شربها منهم وجعلوا يتوقونها عند الصلاة ، حتى شربها فيما زعم أبو القلوص رجل فجعل ينوح على قتلى بدر ، وجعل يقول:
تحيي بالسلامة أم بكر وهل لي بعد قومي من سلام
ذريني أصطبح بكرا فإني رأيت الموت نبث عن هشام
ووديني المغيرة لو فدوه بألف من رجال أو سوام
وكائن بالطوي طوي بدر من الشيزى تكلل بالسنام
وكائن بالطوي طوي بدر من الفتيان والحلل الكرام
قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فزعا يجر رداءه من الفزع حتى انتهى إليه ، فلما عاينه الرجل ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كان بيده ليضربه ، فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله ، لا أطعمها أبدا ، فأنزل الله في تحريمها يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام إلى قوله: فهل أنتم منتهون [المائدة: 90-91] فقالوا: انتهينا. وروى موسى عن عمرو عن عن أسباط قال: نزلت هذه الآية: السدي يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير فلم يزالوا يشربونها حتى صنع طعاما ودعا ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم عبد الرحمن بن عوف علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، فشربوا حتى سكروا ، فحضرت الصلاة فأمهم وعمر رضي الله عنه فقرأ: علي بن أبي طالب قل يا أيها الكافرون [الكافرون: 1] فلم يقمها ، فأنزل الله تعالى يشدد في الخمر يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة إلى قوله: ما تقولون فكانت لهم حلالا يشربونها من صلاة الغداة حتى يرتفع النهار أو ينتصف فيقومون إلى صلاة الظهر وهم صاحون ، ثم لا يشربونها حتى يصلوا العتمة ، ثم يشربونها حتى ينتصف الليل ، وينامون ويقومون إلى صلاة الفجر وقد أصبحوا ، فلم يزالوا كذلك يشربونها حتى صنع طعاما ودعا [ ص: 280 ] سعد بن أبي وقاص
ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار ، فسوى لهم رأس بعير ثم دعاهم إليه ، فلما أكلوا وشربوا من الخمر سكروا وأخذوا في الحديث فتكلم بشيء فغضب الأنصاري فرفع لحى البعير وكسر أنف سعد ، فأنزل الله تعالى نسخ الخمر وتحريمها ، فقال تعالى: سعد يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام [المائدة: 90] إلى قوله: فهل أنتم منتهون قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير قال المفسرون: لما نزلت سورة بني إسرائيل ، وقوله تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، وفي سورة النساء: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا تحرج المسلمون أن يخلطوا طعامهم بطعام من يكون عندهم من الأيتام ، وكانوا يعزلون طعامهم عن طعامهم ، وشرابهم عن شرابهم ، حتى ربما فسد طعامهم ، فشق ذلك عليهم ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى: وإن تخالطوهم فإخوانكم ، يعني في الطعام ، والشراب ، والمساكنة ، وركوب الدابة ، واستخدام العبد قال فمن خالط يتيما ، فليوسع عليه ، ومن خالط بأكل فلا يفعل. الشعبي: والله يعلم المفسد من المصلح قال الله يعلم حين تخلط مالك بماله ، أتريد أن تصلح ماله أو تفسد ماله بغير حق. ابن زيد: ولو شاء الله لأعنتكم فيه تأويلان: أحدهما: لشدد عليكم ، وهو قول والثاني: لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا ، وهو قول السدي. . ابن عباس إن الله عزيز حكيم يعني: عزيز في سلطانه وقدرته على الإعنات ، حكيم فيما صنع من تدبيره وتركه الإعنات.