لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء [ ص: 360 ] قدير آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير
قوله عز وجل: لله ما في السماوات وما في الأرض في إضافة ذلك إلى الله تعالى قولان: أحدهما: أنه إضافة تمليك تقديره: الله يملك ما في السماوات وما في الأرض. والثاني: معناه تدبير ما في السماوات وما في الأرض. وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله إبداء ما في النفس هو العمل بما أضمروه ، وهو مؤاخذ به ومحاسب عليه ، وأما إخفاؤه فهو ما أضمره وحدث به نفسه ولم يعمل به. وفيما أراد به قولان: أحدهما: أن المراد به كتمان الشهادة خاصة ، قاله ، ابن عباس ، وعكرمة والثاني: أنه عام في جميع ما حدث به نفسه من سوء ، أو أضمر من معصية ، وهو قول الجمهور. واختلف في هذه الآية ، هل حكمها ثابت في المؤاخذة بما أضمره وحدث به نفسه؟ أو منسوخ؟ على قولين: أحدهما: أن حكمها ثابت في المؤاخذة بما أضمره ، واختلف فيه من قال بثبوته على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن حكمها ثابت على العموم فيما أضمره الإنسان فيؤاخذ به من يشاء ، ويغفر لمن يشاء ، قاله والشعبي. ، ابن عمر والثاني: حكمها ثابت في مؤاخذة الإنسان بما أضمره وإن لم يفعله، إلا أن الله يغفره للمسلمين ويؤاخذ به الكافرين والمنافقين ، قاله والحسن. ، الضحاك ، [ ص: 361 ] والربيع
ويكون فيغفر لمن يشاء محمولا على المسلمين ، ويعذب من يشاء محمولا على الكافرين والمنافقين. والثالث: أنها ثابتة الحكم على العموم في مؤاخذته المسلمين بما حدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزنون لها ، ومؤاخذة الكافرين والمنافقين بعذاب الآخرة ، وهذا قول رضي الله عنها. والقول الثاني: أن حكم الآية في المؤاخذة بما أضمره الإنسان وحدث به نفسه وإن لم يفعله منسوخ. واختلف من قال بنسخها فيما نسخت به على قولين: أحدهما: بما رواه عائشة عن أبيه عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب قال: أبي هريرة أنزل الله وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فاشتد ذلك على القوم فقالوا: يا رسول الله، إنا لمؤاخذون بما نحدث به أنفسنا ، هلكنا ، فأنزل الله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهو أيضا قول . والثاني: أنها نسخت بما رواه ابن مسعود عن سعيد بن جبير قال: ابن عباس وإن تبدوا ما في أنفسكم دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا . قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، قال: فأنزل الله: آمن الرسول الآية. فقرأ: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا فقال تعالى: قد فعلت. ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال: قد فعلت ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به قال: قد فعلت. واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال: قد فعلت. [ ص: 362 ] لما نزلت هذه الآية
والذي أقوله فيما أضمره وحدث به نفسه ولم يفعله إنه مؤاخذ بمأثم الاعتقاد دون الفعل ، إلا أن يكون كفه عن الفعل ندما ، فالندم توبة تمحص عنه مأثم الاعتقاد. قوله عز وجل: آمن الرسول إلى قوله: وملائكته وكتبه أما إيمان الرسول فيكون بأمرين: تحمل الرسالة ، وإبلاغ الأمة ، وأما إيمان المؤمنين فيكون بالتصديق والعمل. كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والإيمان بالله يكون بأمرين: بتوحيده ، وقبول ما أنزل على رسوله. وفي الإيمان بالملائكة وجهان: أحدهما: الإيمان بأنهم رسل الله إلى أنبيائه. والثاني: الإيمان بأن كل نفس منهم رقيب وشهيد. ( وكتبه ) قراءة الجمهور وقرأ حمزة: ( وكتابه ) فمن قرأ: ( وكتبه ) فالمراد به جميع ما أنزل الله منها على أنبيائه. ومن قرأ: ( وكتابه ) ففيه وجهان: أحدهما: أنه عنى القرآن خاصة. والثاني: أنه أراد الجنس ، فيكون معناه بمعنى الأول وأنه أراد جميع الكتب والإيمان بها والاعتراف بنزولها من الله على أنبيائه. وفي لزوم العمل بما فيها ما لم يرد نسخ قولان: ثم فيما تقدم ذكره من إيمان الرسول والمؤمنين - وإن خرج مخرج الخبر - قولان: أحدهما: أن المراد به مدحهم بما أخبر من إيمانهم. والثاني: أن المراد به أنه يقتدي بهم من سواهم. ثم قال تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله يعني في أن يؤمن ببعضهم [ ص: 363 ]
دون بعض ، كما فعل أهل الكتاب ، فيلزم التسوية بينهم في التصديق ، وفي لزوم التسوية في التزام شرائعهم ما قدمناه من القولين ، وجعل هذا حكاية عن قولهم وما تقدمه خبرا عن حالهم ليجمع لهم بين قول وعمل وماض ومستقبل. وقالوا سمعنا وأطعنا أي سمعنا قوله وأطعنا أمره. ويحتمل وجها ثانيا: أن يراد بالسماع القبول ، وبالطاعة العمل. غفرانك ربنا معناه نسألك غفرانك ، فلذلك جاء به منصوبا. وإليك المصير يعني إلى جزائك. ويحتمل وجها ثانيا: يريد به إلى لقائك لتقدم اللقاء على الجزاء.