قوله عز وجل: وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه يعني آية تكون دليلا على صدقه وصحة نبوته. قل إن الله قادر على أن ينزل آية يعني آية يجابون بها إلى ما سألوا. ولكن أكثرهم لا يعلمون يحتمل وجهين. أحدهما: لا يعلمون المصلحة في نزول الآية.
الثاني: لا يعلمون أن زيادة الآيات إذا لم يؤمنوا بها ، توجب الزيادة من عذابهم ، لكثرة تكذيبهم. فإن قيل: فهذه الآية لا تدل على أن الله لم ينزل عليهم آية تقودهم إلى التصديق فلم يلزمهم الإيمان ، قيل: هذا خطأ ، لأن ما أظهره الله من الآيات [ ص: 111 ] الدالة على صدق رسوله وصحة نبوته ، أظهر من أن يخفى ، وأكثر من أن ينكر ، وأن القرآن مع عجز من تحداهم الله من الآيات بمثله ، وما تضمنه من أخبار الغيوب وصدق خبره عما كان ويكون أبلغ الآيات وأظهر المعجزات. وإنما اقترحوا آية سألوها إعناتا ، فلم يجابوا مع قدرة الله تعالى على إنزالها ، لأنه لو أجابهم إليها لاقترحوا غيرها إلى ما لا نهاية له ، حتى ينقطع الرسول بإظهار الآيات عن تبليغ الرسالة. وإنما يلزمه إظهار الآيات في موضعين: أحدهما: عند بعثه رسولا ليكون مع استدعائه لهم دليل على صدقه. والثاني: أن يسألها من يعلم الله منه أنه إن أظهرها له آمن به ، وليس يلزمه إظهارها في غير هذين الموضعين. قوله عز وجل: وما من دابة في الأرض دابة بمعنى ما يدب على الأرض من حيوان كله. ولا طائر يطير بجناحيه يعني في الهواء ، جمع بين ما هو على الأرض وفيها وما ارتفع عنها. إلا أمم أمثالكم في الأمم تأويلان: أحدهما: أنها الجماعات. والثاني: أنها الأجناس ، قاله . وليس يريد بقوله: الفراء أمثالكم في التكليف كما جعل قوم اشتبه الظاهر عليهم وتعلقوا مع اشتباه الظاهر برواية ، قال: أبي ذر انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا أتدري فيم انتطحتا؟ قلت: لا ، قال: (لكن الله يدري وسيقضي بينهما قال أبا ذر لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما ، أبو ذر: لأنه إذا كان العقل سببا للتكليف كان عدمه لارتفاع التكليف. [ ص: 112 ] والمراد بقوله: أمثالكم وجهان: أحدهما: أنها أجناس وتتميز في الصور والأسماء. والثاني: أنها مخلوقة لا تظلم ، ومرزوقة لا تحرم. ثم قال تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء فيه تأويلان: أحدهما: ما تركنا خلقا إلا أوجبنا له أجلا ، والكتاب هنا هو إيجاب الأجل كما قال تعالى: لكل أجل كتاب [الرعد: 38] قاله ابن بحر وأنشد لنابغة بني جعدة
بلغوا الملوك وأدركوا ال كتاب وانتهى الأجل
والتأويل الثاني: وهو قول الجمهور: أن الكتاب هو القرآن الكريم الذي أنزله ، ما أخل فيه بشيء من أمور الدين ، إما مفصلا يستغني عن التفسير ، أو مجملا جعل إلى تفسيره سبيلا. يحتمل تأويلا ثالثا: ما فرطنا فيه بدخول خلل عليه ، أو وجود نقص فيه ، فكتاب الله سليم من النقص والخلل. ثم إلى ربهم يحشرون فيه تأويلان: أحدهما: أن الموت ، قاله المراد بالحشر . والثاني: أن الحشر الجمع لبعث الساعة. فإن قيل: فإذا كانت غير مكلفة فلماذا تبعث يوم القيامة؟ قيل: ليس التكليف علة البعث ، لأن الأطفال والمجانين يبعثون وإن كانوا في الدنيا غير مكلفين ، وإنما يبعثها ليعوض ما استحق العوض منها بإيلام أو ظلم ، ثم [ ص: 113 ] يجعل ما يشاء منها ترابا ، وما شاء من دواب الجنة يتمتع المؤمنون بركوبه ورؤيته. ابن عباس