وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
قوله تعالى: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل فيه تأويلان: أحدهما: أي أمرنا. [ ص: 188 ]
والثاني: أي أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل. أن طهرا بيتي فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من الأصنام. والثاني: من الكفار. والثالث: من الأنجاس. وقوله تعالى: بيتي يريد البيت الحرام. فإن قيل: فلم يكن على عهد إبراهيم، قبل بناء البيت بيت يطهر، قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: معناه: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مطهرا، وهذا قول والثاني: معناه أن طهرا مكان البيت. السدي. للطائفين فيهم تأويلان: أحدهما: أنهم الغرباء الذين يأتون البيت من غربة، وهذا قول والثاني: أنهم الذين يطوفون بالبيت، وهذا قول سعيد بن جبير. عطاء. والعاكفين فيهم أربعة تأويلات: أحدها: أنهم أهل البلد الحرام، وهذا قول سعيد بن جبير . والثاني: أنهم المعتكفون وهذا قول وقتادة والثالث: أنهم المصلون وهذا قول مجاهد. . والرابع: أنهم المجاورون ابن عباس للبيت الحرام بغير طواف، وغير اعتكاف، ولا صلاة، وهذا قول عطاء. والركع السجود يريد أهل الصلاة، لأنها تجمع ركوعا وسجودا. قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا يعني مكة وارزق أهله من الثمرات ليجمع لأهله الأمن والخصب، فيكونوا في رغد من العيش. [ ص: 189 ]
من آمن منهم بالله فيه وجهان: أحدهما: أن هذا من قول إبراهيم متصلا بسؤاله، أن يجعله بلدا آمنا، وأن يرزق أهله الذين آمنوا به من الثمرات، لأن الله تعالى قد أعلمه بقوله: لا ينال عهدي الظالمين أن فيهم ظالما هو بالعقاب أحق من الثواب، فلم يسأل أهل المعاصي سؤال أهل الطاعات. والوجه الثاني: أنه سؤاله كان عاما مرسلا، وأن الله تعالى خص الإجابة لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، ثم استأنف الإخبار عن حال الكافرين، بأن قال: ومن كفر فأمتعه قليلا يعني في الدنيا. ثم أضطره إلى عذاب النار يعني بذنوبه إن مات على كفره. واختلفوا في إبراهيم أو كانت فيه كذلك؟ على قولين: أحدهما: أنها لم تزل حرما من الجبابرة والمسلطين، ومن الخسوف والزلازل، وإنما سأل مكة، هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم ربه: أن يجعله آمنا من الجدب والقحط، وأن يرزق أهله من الثمرات، لرواية قال: سمعت سعيد بن المقبري، أبا شريح الخزاعي يقول: مكة، قتلت خزاعة رجلا من هذيل، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: (يأيها الناس، إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد بها شجرا، وأنها لا تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها، ألا وهي قد رجعت على حالها بالأمس، ألا ليبلغ الشاهد الغائب. فمن قال: إن رسول الله قد قتل بها فقولوا: إن الله تعالى قد أحلها لرسوله ولم يحلها لك .والثاني: أن إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم، كسائر البلاد، وأنها [ ص: 190 ]
بدعوته صارت حرما آمنا، وبتحريمه لها، كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم حراما، بعد أن كانت حلالا، لرواية عن أشعب، عن نافع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابن عمر، (إن إبراهيم كان عبد الله وخليله، وإني عبده ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها عضاها وصيدها، لا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجر لعلف). قوله تعالى: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل أول من دله الله تعالى على مكان البيت إبراهيم، وهو أول من بناه مع إسماعيل، وأول من حجه، وإنما كانوا قبل يصلون نحوه، ولا يعرفون مكانه. والقواعد من البيت واحدتها قاعدة، وهي كالأساس لما فوقها. ربنا تقبل منا والمعنى: يقولان ربنا تقبل منا، كما قال تعالى: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم أي يقولون: سلام عليكم، وهي كذلك في قراءة ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا ) وتفسير أبي بن كعب: (إسماعيل): اسمع يا الله، لأن إيل بالسريانية هو الله، لأن إبراهيم لما دعا ربه قال: اسمع يا إيل، فلما أجابه ورزقه بما دعا من الولد، سمى بما دعا. قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك على التثنية، وقرأ عوف [ ص: 191 ] الأعرابي: مسلمين لك على الجمع. ويقال: أنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته لهذه الأمة في قوله: ومن ذريتنا أمة مسلمة لك والمسلم هو الذي استسلم لأمر الله وخضع له، وهو في الدين القابل لأوامر الله سرا وجهرا. وأرنا مناسكنا أي عرفنا مناسكنا، وفيها تأويلان: أحدهما: أنها مناسك الحج ومعالمه، وهذا قول قتادة .والثاني: أنها مناسك الذبائح التي تنسك لله عز وجل، وهذا قول والسدي مجاهد والمناسك جمع منسك، واختلفوا في تسميته منسكا على وجهين: أحدهما: لأنه معتاد ويتردد الناس إليه في الحج والعمرة، من قولهم: إن لفلان منسكا، إذا كان له موضع معتاد لخير أو شر، فسميت بذلك مناسك الحج لاعتيادها. والثاني: أن النسك عبادة الله تعالى، ولذلك سمي الزاهد ناسكا لعبادة ربه، فسميت هذه مناسك لأنها عبادات. وعطاء.