"يرضعن": مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد، "كاملين": توكيد كقوله: تلك عشرة كاملة [البقرة: 196] لأنه مما يتسامح فيه فتقول: أقمت عند فلان حولين ولم تستكملهما، وقرأ -رضي الله عنهما-: (أن يكمل الرضاعة)، وقرئ: (الرضاعة) بكسر الراء، (والرضعة)، (وأن تتم الرضاعة)، و(أن يتم الرضاعة) برفع الفعل تشبيها لـ"أن" بـ"ما" لتآخيهما في التأويل. ابن عباس
فإن قلت: كيف اتصل قوله: لمن أراد : بما قبله؟ قلت: هو بيان لمن توجه إليه الحكم، كقوله تعالى: هيت لك [يوسف: 23] لك بيان للمهيت به، أي: هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع.
وعن : حولين كاملين، ثم أنزل الله اليسر والتخفيف فقال: قتادة لمن أراد أن يتم الرضاعة : أراد أنه يجوز النقصان، وعن ليس ذلك بوقت لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر، وقيل: اللام متعلقة بـ"يرضعن" كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، أي: يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء؛ لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئرا إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه، ولا يجوز استئجار الأم عند الحسن: -رحمه الله- ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح، وعند أبي حنيفة : يجوز، فإذا انقضت عدتها جاز بالاتفاق. الشافعي
فإن قلت: فما بال قلت: إما أن يكون أمرا على وجه الندب، وإما على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه، أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزا عن الاستئجار، وقيل: أراد الوالدات المطلقات وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع. الوالدات مأمورات بأن يرضعن أولادهن؟
وعلى المولود له : وعلى الذي يولد له وهو الوالد، و"له": في محل الرفع على الفاعلية، نحو: "عليهم" في المغضوب عليهم [الفاتحة: 7].
فإن قلت: لم قيل: المولود له دون الوالد، قلت: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم; لأن الأولاد للآباء، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات، وأنشد للمأمون بن الرشيد [من البسيط]:
[ ص: 456 ]
فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء
فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم، كالأظآر; ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى، وهو قوله تعالى: واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا [لقمان: 32] "بالمعروف": تفسيره ما يعقبه، وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارا، وقرئ (لا تكلف): بفتح التاء، و(لا نكلف): بالنون، وقرئ: (لا تضار): بالرفع على الإخبار، وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول، وأن يكون الأصل: تضارر بكسر الراء، وتضارر بفتحها، وقرأ: (لا تضار): بالفتح أكثر القراء، وقرأ بالكسر على النهي، وهو محتمل للبناءين - أيضا - ويبين ذلك أنه قرئ (لا تضارر)، و(لا تضارر) بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها، وقرأ الحسن : (لا تضار) بالسكون مع التشديد على نية الوقف، وعن أبو جعفر : (لا تضار) بالسكون والتخفيف، وهو من ضاره يضيره، ونوى الوقف كما نواه الأعرج ، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا. أبو جعفر
وعن كاتب : (لا تضرر)، والمعنى: لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعدما ألفها الصبي: اطلب له ظئرا، وما أشبه ذلك، ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده، بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، ولا يأخذه منها وهي تريد إرضاعه، ولا يكرهها على الإرضاع. عمر بن الخطاب
وكذلك إذا كان مبنيا للمفعول فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، وعن أن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد.
ويجوز أن يكون: "تضار": بمعنى: تضر، وأن تكون الباء من صلته، أي: لا تضر والدة بولدها، فلا تسيء غذاءه وتعهده، ولا تفرط فيما ينبغي له، ولا تدفعه إلى الأب بعدما ألفها، ولا يضر [ ص: 457 ] الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد.
فإن قلت: كيف قيل بولدها وبولده؟ قلت: لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد؛ استعطافا لها عليه وأنه ليس بأجنبي منها، فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد.
وعلى الوارث : عطف على قوله: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن ، وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، فكان المعنى: وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة، أي: إن مات المولود له لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشريطة التي ذكرت من المعروف وتجنب الضرار، وقيل: هو وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه.
واختلفوا، فعند : كل من ورثه، وعند ابن أبي ليلى : من كان ذا رحم محرم منه، وعند أبي حنيفة : لا نفقة فيما عدا الولاد، وقيل: من ورثه من عصبته مثل الجد، والأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم، وقيل: المراد وارث الأب، وهو الصبي نفسه، وأنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعة في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه، وقيل: ( على الوارث ) : على الباقي من الأبوين من قوله: "واجعله الوارث منا". الشافعي
فإن أرادا فصالا : صادرا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما في ذلك، زادا على الحولين أو نقصا، وهذه توسعة بعد التحديد، وقيل: هو في غاية الحولين لا يتجاوز، وإنما اعتبر تراضيهما في الفصال وتشاورهما: أما الأب فلا كلام فيه، وأما الأم؛ فلأنها أحق بالتربية وهي أعلم بحال الصبي، وقرئ: (فإن أراد) استرضع: منقول من أرضع، يقال: أرضعت المرأة الصبي، واسترضعتها الصبي؛ لتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة، واستنجحته الحاجة والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول.
إذا سلمتم : إلى المراضع ما آتيتم : ما أردتم إيتاءه، كقوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة [المائدة: 6] وقرئ: (ما أتيتم) من أتى إليه إحسانا إذا فعله، ومنه قوله تعالى: إنه كان وعده مأتيا [مريم: 61] أي: مفعولا، وروى شيبان عن : (ما أوتيتم)، أي: ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، ونحوه: عاصم وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه [الحديد: 7] وليس التسليم بشرط للجواز والصحة، وإنما هو ندب إلى الأولى، ويجوز أن يكون بعثا على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنئ ما يكون؛ لتكون طيبة النفس راضية، فيعود ذلك إصلاحا لشأن الصبي واحتياطا في أمره، فأمرنا بإيتانه ناجزا يدا بيد، كأنه قيل: إذا أديتم إليهن يدا [ ص: 458 ] بيد ما أعطيتموهن.
"بالمعروف": متعلق بـ"سلمتم" أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن، حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن.