لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقا إلى الإحاطة بها علما وصحة الخبر عنها ، استعملوا "أرأيت" في معنى : "أخبر " ، والفاء جاءت لإفادة معناها الذي هو التعقيب ، كأنه قال : أخبر أيضا- بقصة هذا الكافر ، واذكر حديثه عقيب حديث أولئك ، أطلع الغيب من قولهم : أطلع الجبل : إذا ارتقى إلى أعلاه وطلع الثنية ، قال [من الكامل ] : جرير
[ ص: 51 ]
لاقيت مطلع الجبال وعورا
ويقولون : مر مطلعا لذلك الأمر ، أي : عاليا له مالكا له ، ولاختيار هذه الكلمة شأن ، يقول : أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار ، والمعنى : أن ما ادعى أن يؤتاه وتألى عليه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين : إما ، وإما عهد من عالم الغيب ، فبأيهما توصل إلى ذلك ؟ قرأ علم الغيب حمزة : "ولدا " ، وهو جمع ولد ، كأسد في أسد ، أو بمعنى : الولد كالعرب في العرب ، وعن والكسائي : "ولدا " : بالكسر ، وقيل في العهد : كلمة الشهادة ، وعن يحيى بن يعمر : هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول ؟ وعن قتادة : هل عهد الله إليه أنه يؤتيه ذلك ؟ عن الكلبي -رحمه الله - : نزلت في الحسن الوليد بن المغيرة ، والمشهور أنها في العاصي بن وائل ، قال : كان لي عليه دين فاقتضيته ، فقال : لا والله حتى تكفر خباب بن الأرت بمحمد ، قلت : لا والله لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا ولا حين تبعث ، قال : فإني إذا مت بعثت ؟ قلت : نعم ، قال : إذا بعثت جئتني وسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك وقيل : صاغ له حليا فاقتضاه الأجر ، فقال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون ، وأن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ، فأنا أقضيك ثم ؛ فإني أوتى مالا وولدا حينئذ ، خباب "كلا " : [ ص: 52 ] ردع وتنبيه على الخطأ ، أي : هو مخطئ فيما يصوره لنفسه ويتمناه فليرتدع عنه .
فإن قلت : كيف قيل : سنكتب : بسين التسويف ، وهو كما قاله كتب من غير تأخير ، قال الله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ؟
قلت : فيه وجهان :
أحدهما : سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله ؛ على طريقة قوله [من الطويل ] :
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
أي : تبين وعلم بالانتساب أني لست بابن لئيمة .
والثاني : أن المتوعد يقول للجاني : سوف أنتقم منك ، يعني : أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر ، فجرد ها هنا لمعنى الوعيد ، ونمد له من العذاب مدا أي : نطول له من العذاب ما يستأهله ونعذبه بالنوع الذي يعذب به الكفار المستهزئون ، أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد ، يقال : مده وأمده بمعنى ؛ وتدل عليه قراءة : "ونمد له " : بالضم ، وأكد ذلك بالمصدر ؛ وذلك من فرط غضب الله ، نعوذ به من التعرض لما نستوجب به غضبه ، علي بن أبي طالب ونرثه ما يقول أي : نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه من يستحقه ، والمعنى مسمى ما يقول ، ومعنى : ما يقول ، وهو المال والولد ، يقول الرجل : أنا أملك كذا ، فتقول له : ولي فوق ما تقول ، ويحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله في الدنيا مالا وولدا ، وبلغت به أشعبيته أن تألى على ذلك في قوله : "لأوتين " ؛ لأنه جواب قسم مضمر ، ومن يتأل على الله يكذبه ، فيقول الله -عز [ ص: 53 ] وجل - : هب أنا أعطيناه ما اشتهاه ، إما نرثه منه في العاقبة ويأتينا فردا غدا بلا مال ولا ولد ؛ كقوله عز وجل : ولقد جئتمونا فرادى الآية [الأنعام : 94 ] ، فما يجدي عليه تمنيه وتأليه ، ويحتمل أن هذا القول ؛ إنما يقول ما دام حيا ، فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ، ويأتينا رافضا له منفردا عنه غير قائل له ، أو لا ننسى قوله هذا ولا نلغيه ، بل نثبته في صحيفة لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به ، "ويأتينا " : على فقره ومسكنته ، "فردا " : من المال والولد ، لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه ، فيجتمع عليه الخطبان : تبعة قوله ووباله ، وفقد المطموع فيه ، فردا على الوجه الأول : حال مقدرة ؛ نحو : فادخلوها خالدين [الزمر : 73 ] ؛ لأنه وغيره سواء في إتيانه فردا حين يأتي ، ثم يتفاوتون بعد ذلك .