الوحي إلى أم موسى : إما أن يكون على لسان نبي في وقتها ؛ كقوله تعالى : وإذ أوحيت إلى الحواريين [المائدة : 111 ] ، أو يبعث إليها ملكا لا على وجه النبوة ، كما بعث إلى مريم ، أو يريها ذلك في المنام فتتنبه عليه ، أو يلهمها ؛ كقوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل [النحل : 68 ] ، أي : أوحينا إليها أمرا لا سبيل إلى التوصل إليه ولا إلى العلم به إلا بالوحي ، وفيه مصلحة دينية فوجب أن يوحي ولا يخل به ، أي : هو مما يوحي لا محالة وهو أمر عظيم ، مثله يحق بأن يوحي " أن " : هي المفسرة ؛ لأن الوحي بمعنى القول ، القذف [ ص: 81 ] مستعمل في معنى الإلقاء والوضع ؛ ومنه قوله تعالى : وقذف في قلوبهم الرعب [الحشر : 26 ] ، وكذلك الرمي ؛ قال [من الطويل ] :
غلام رماه الله بالحسن يافعا
أي : حصل فيه الحسن ووضعه فيه ، والضمائر كلها راجعة إلى موسى ، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت : فيه هجنة ؛ لما يؤدي إليه من تنافر النظم .
فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت ، وكذلك الملقى إلى الساحل .
قلت : ما ضرك لو قلت : المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت ؛ حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم ، والقانون الذي وقع عليه التحدي ، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر ؛ لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته ألا تخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وألقاه إليه ، سلك في ذلك سبيل المجاز ، وجعل اليم كأنه ذو تمييز ، أمر بذلك ليطيع الأمر يمتثل رسمه ، فقيل : إعجاز القرآن فليلقه اليم [ ص: 82 ] بالساحل ، روي أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا ، فوضعته فيه وجصصته وقيرته ، ثم ألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير ، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت ، فأمر به فأخرج ففتح ، فإذا صبي أصبح الناس وجها ، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه ، وظاهر اللفظ أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه ؛ لأن الماء يسحله ، أي : يقشره ، وقذف به ثمة فالتقط من الساحل ، إلا أن يكون قد ألقاه اليم بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون ، ثم أداه النهر إلى حيث البركة ، "التابوت " : لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت ، فيكون المعنى على : أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة ، أي : محبة حاصلة أو واقعة مني ، قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها ؛ فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك ، روي أنه كانت على وجهه مسحة جمال ، وفي عينيه ملاحة ، لا يكاد يصبر عنه من رآه ، على عيني : لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك ، كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به ، وتقول للصانع : اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادي وبغيتي ، ولتصنع : معطوف على علة مضمرة ، مثل : ليتعطف عليك وترأم ، ونحوه ، أو حذف معلله ، أي : ولتصنع فعلت ذلك ، وقرئ : "ولتصنع" بكسر اللام وسكونها ، والجزم على أنه أمر ، وقرئ : "ولتصنع " : بفتح التاء والنصب ، أي : وليكون عملك وتصرفك على عين مني .