وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون [ ص: 131 ] قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين
وكم قصمنا من قرية : واردة عن غضب شديد ومنادية على سخط عظيم ؛ لأن القصم أفظع الكسر ، وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء ، بخلاف الفصم ، وأراد بالقرية : أهلها ؛ ولذلك وصفها بالظلم ، وقال : قوما آخرين ؛ لأن المعنى : أهلكنا قوما وأنشأنا قوما آخرين ، وعن : أنها "حضور " ، وهي و "سحول" قريتان باليمن ، تنسب إليهما الثياب ، وفي الحديث : ابن عباس ، وروي : "حضوريين " ؛ بعث الله إليهم نبيا فقتلوه ، فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل "كفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثوبين سحوليين " بيت المقدس فاستأصلهم ، وروي : أنهم لما أخذتهم السيوف ونادى مناد من السماء : يا لثارات الأنبياء ، ندموا واعترفوا بالخطأ ؛ وذلك حين لم ينفعهم الندم ، وظاهر الآية على الكثرة ، ولعل ذكر "حضور" بأنها إحدى القرى التي أرادها الله بهذه الآية ، فلما علموا شدة عذابنا وبطشتنا علم حس ومشاهدة ، لم يشكوا فيها ، ركضوا من ديارهم ، والركض : ضرب الدابة بالرجل ؛ ومنه قوله تعالى : ابن عباس اركض برجلك [ص : 42 ] ، [ ص: 132 ] فيجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ، ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم ، فقيل لهم : "لا تركضوا " ، والقول محذوف .
فإن قلت : من القائل ؟
قلت : يحتمل أن يكون بعض الملائكة أو من ثم من المؤمنين أو يجعلوا خلفاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل . أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم ، أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم ، وارجعوا إلى ما أترفتم فيه من العيش الرافه والحال الناعمة . والإتراف : إبطار النعمة وهي الترفة ، لعلكم تسألون : تهكم بهم وتوبيخ ، أي : ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم ، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم ، وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم : بم تأمرون ؟ وبماذا ترسمون ؟ وكيف نأتي ونذر كعادة المنعمين المخدمين ؟ أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب ، ويستشيرونكم في المهمات والعوارض ويستشفون بتدابيركم ، ويستضيئون بآرائكم ، أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع ويستمطرون سحائب أكفكم ، ويمترون أخلاف معروفكم وأياديكم : إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء ، أو كانوا بخلاء ؛ فقيل لهم : ذلك تهكما إلى تهكم ، وتوبيخا إلى توبيخ ، "تلك " : إشارة إلى يا ويلنا ؛ لأنها دعوى ، كأنه قيل : فما زالت تلك الدعوى ، "دعواهم " : والدعوى بمعنى : الدعوة ؛ قال تعالى : وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين [يونس : 10 ] .
فإن قلت : لم سميت دعوى ؟
قلت : لأن المولول كأنه يدعو الويل ، فيقول: يا ويل فهذا وقتك ، و "تلك " : مرفوع أو منصوب اسما أو خبرا وكذلك دعواهم ، الحصيد : الزرع المحصود ، أي : جعلناهم مثل الحصيد ، شبههم به في استئصالهم واصطلامهم ، كما تقول : جعلناهم رمادا ، أي : مثل الرماد ، والضمير المنصوب هو الذي كان مبتدأ والمنصوبان بعده كانا خبرين له ، فلما دخل عليها جعل نصبها جميعا على المفعولية .
فإن قلت : كيف ينصب "جعل " : ثلاثة مفاعيل ؟
[ ص: 133 ] قلت : حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد ؛ لأن معنى قولك "جعلته حلوا حامضا " : جعلته جامعا للطعمين ، وكذلك معنى ذلك : جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود .