روي أنه لما أمر ببناء الصرح ، جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير ، فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق ، فكان الباني لا يقدر أن يقف على رأسه [ ص: 505 ] يبني ، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس ، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع : وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب ، ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك . ويروى في هذه القصة : أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء ، فأراد الله أن يفتنهم فردت إليه وهي ملطوخة بالدم ؛ فقال : قد قتلت إله موسى ، فعندها بعث الله جبريل عليه السلام لهدمه ، والله أعلم بصحته . قصد بنفي علمه بإله غيره . نفي وجوده ، معناه : ما لكم من إله غيري كما قال الله تعالى : قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض [يونس : 18 ] ، معناه بما ليس فيهن ، وذلك لأن العلم تابع للمعلوم لا يتعلق به إلا على ما هو عليه ، فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلق به موجود ، فمن ثمة كان انتفاء العلم بوجوده لا انتفاء وجوده . وعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده . ويجوز أن يكون على [ ص: 506 ] ظاهره ، وأن إلها غيره غير معلوم عنده ، ولكنه مظنون بدليل قوله : وإني لأظنه من الكاذبين ، وإذا ظن موسى عليه السلام كاذبا في إثباته إلها غيره ولم يعلمه كاذبا ، فقد ظن أن في الوجود إلها غيره ، ولو لم يكن المخذول ظانا ظنا كاليقين ، بل عالما بصحة قول موسى عليه السلام لقول موسى له : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر [الإسراء : 102 ] لما تكلف ذلك البنيان العظيم ، ولما تعب في بنائه ما تعب ، لعله يطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام ، وإن كان جاهلا مفرط الجهل به وبصفاته ، حيث حسب أنه في مكان كما كان هو في مكان ، وأنه يطلع إليه كما كان يطلع إليه إذا قعد في عليته ، وأنه ملك السماء كما أنه ملك الأرض . ولا ترى بينة أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته وجهل ملئه وغباوتهم : من أنهم راموا نيل أسباب السماوات بصرح يبنونه ، وليت شعري ؛ أكان يلبس على أهل بلاده ويضحك من عقولهم ، حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن وأشبههم بالبهائم بذلك ؟ أم كان في نفسه بتلك الصفة ؟ وإن صح ما حكي من رجوع النشابة إليه ملطوخة بالدم ، فتهكم به بالفعل ، كما جاء التهكم بالقول في غير موضع من كتاب الله بنظرائه من الكفرة . ويجوز أن يفسر الظن على القول الأول باليقين ، كقوله [من الطويل ] :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
[ ص: 507 ] ويكون بناء الصرح مناقضة لما ادعاه من العلم واليقين ، وقد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم . أو لم تخف عليهم ، ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه ، وإنما قال : فأوقد لي يا هامان على الطين ولم يقل : اطبخ لي الآجر واتخذه ، لأنه أول من عمل الآجر ، فهو يعلمه الصنعة ، ولأن هذه العبارة أحسن طابقا لفصاحة القرآن وعلو طبقته وأشبه بكلام الجبابرة . وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين منادى باسمه بيا في وسط الكلام : دليل التعظيم والتجبر . وعن -رضي الله عنه- أنه حين سافر إلى عمر الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر فقال : ما علمت أن أحدا بنى بالآجر غير فرعون . والطلوع والإطلاع : الصعود . يقال : طلع الجبل وأطلع : بمعنى .