الأفاك: الكذاب، والأثيم: المتبالغ في اقتراف الآثام "يصر" يقبل على كفره ويقيم عليه. وأصله من إصرار الحمار على العانة وهو أن ينحى عليها صار أذنيه "مستكبرا" عن الإيمان بالآيات والإذعان لما ينطق به من الحق، مزدريا لها معجبا بما عنده. قيل: نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم، ويشغل الناس بها عن استماع القرآن. والآية عامة في كل ما كان مضارا لدين الله. فإن قلت: ما معنى ثم في قوله: ثم يصر مستكبرا ؟ قلت: كمعناه في قول القائل [من الطويل]:
يرى غمرات الموت ثم يزورها
وذلك أن غمرات الموت حقيقة، بأن ينجو رائيها بنفسه ويطلب الفرار عنها. وأما زيارتها والإقدام على مزاولتها. فأمر مستبعد، فمعنى ثم: الإيذان بأن فعل المقدم عليها بعدما رآها وعاينها; شيء يستعبد في العادات والطباع، وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق، من تليت عليه وسمعها: كان مستعبدا في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها "كأن" مخففة، والأصل كأنه لم يسمعها : والضمير ضمير الشأن، كما في قوله [من الطويل]:
كأن ظبية تعطو إلى ناضر السلم
[ ص: 482 ] ومحل الجملة النصب على الحال. أي: يصير مثل غير السامع "وإذا" بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها "اتخذها" أي اتخذ الآيات "هزوا" ولم يقل: اتخذه; للإشعار بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم: خاض في الاستهزاء بجميع الآيات. ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، ويحتمل: وإذا علم من آياتنا شيئا يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا يتسلق به على الطعن والغميزة: افترصه واتخذ آيات الله هزوا، وذلك نحو افتراص ابن الزبعرى قوله عز وجل: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [الأنبياء: 98] ومغالطته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: خصمتك. ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء; لأنه في معنى الآية كقول [من البسيط]: أبي العتاهية
نفسي بشيء من الدنيا معلقة ألله والقائم المهدي يكفيها
حيث أراد عتبة . وقرئ: (علم أولئك) إشارة إلى كل أفاك أثيم; لشموله الأفاكين. والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام. قال [من الطويل]:
أليس ورائي أن تراخت منيتي؟ أدب مع الولدان أزحف كالنسر
[ ص: 484 ] ومنه قوله عز وجل: من ورائهم أي من قدامهم ما كسبوا من الأموال في رحلهم ومتاجرهم ولا ما اتخذوا من دون الله من الأوثان.