وابتلوا اليتامى : واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف ، قبل البلوغ [ ص: 22 ] حتى إذا تبينتم منهم رشدا - أي : هداية - دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حد البلوغ ، وبلوغ النكاح : أن يحتلم لأنه يصلح للنكاح عنده ، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد والتناسل ، والإيناس : الاستيضاح فاستعير للتبيين ، واختلف في الابتلاء والرشد ، فالابتلاء عند أبي حنيفة وأصحابه : أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى يستبين حاله فيما يجيء منه ، والرشد : التهدي إلى وجوه التصرف ، وعن ابن عباس : الصلاح في العقل والحفظ للمال ، وعند مالك والشافعي : الابتلاء أن يتتبع أحواله وتصرفه في الأخذ والإعطاء ، ويتبصر مخايله وميله إلى الدين ، والرشد : الصلاح في الدين ، لأن الفسق مفسدة للمال . فإن قلت : فإن لم يؤنس منه رشد إلى حد البلوغ؟ قلت : عند أبي حنيفة - رحمه الله - ينتظر إلى خمس وعشرين سنة ، لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة ، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير أحوال الإنسان لقوله عليه الصلاة والسلام : "مروهم بالصلاة لسبع" دفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم [ ص: 23 ] يؤنس ، وعند أصحابه : لا يدفع إليه أبدا إلا بإيناس الرشد . فإن قلت : ما معنى تنكير الرشد؟ قلت : معناه نوعا من الرشد وهو الرشد في التصرف والتجارة ، أو طرفا من الرشد ومخيلة من مخايله حتى لا ينتظر به تمام الرشد . فإن قلت : كيف نظم هذا الكلام؟ قلت : ما بعد حتى إلى : فادفعوا إليهم أموالهم : جعل غاية للابتلاء ، وهي "حتى" التي تقع بعدها الجمل . كالتي في قوله [من الطويل] :
فما زالت القتلى تمج دماءها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية لأن "إذا" متضمنة معنى الشرط ، وفعل الشرط "بلغوا النكاح" وقوله : " فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم : جملة من شرط وجزاء واقعة جوابا للشرط الأول الذي هو إذا بلغوا النكاح ، فكأنه قيل : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم ، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم ، وقرأ ابن مسعود : "فإن أحسيتم" بمعنى أحسستم قال [من الوافر] :
أحسن به فهن إليه شوس
[ ص: 24 ] وقرئ : "رشدا" ، بفتحتين ، "ورشدا" ، بضمتين إسرافا وبدارا : مسرفين ومبادرين كبرهم ، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم ، تفرطون في إنفاقها ، وتقولون : ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا . ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا ، فالغني يستعف من أكلها ولا يطمع ، ويقتنع بما رزقه الله من الغنى إشفاقا على اليتيم ، وإبقاء على ماله ، والفقير يأكل قوتا مقدرا محتاطا في تقديره على وجه الأجرة ، أو استقراضا على ما في ذلك من الاختلاف، ولفظ الأكل بالمعروف والاستعفاف مما يدل على أن للوصي حقا لقيامه عليها ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أن رجلا قال له : إن في حجري يتيما آفآكل من ماله؟ قال : "بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله" فقال : أفأضربه؟ قال : "مما كنت ضاربا منه ولدك" وعن ابن عباس : أن ولي اليتيم [ ص: 25 ] قال له : أفأشرب من لبن إبله؟ قال : "إن كنت تبغي ضالتها ، وتلوط حوضها ، وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب".
[ ص: 26 ] وعنه : يضرب بيده مع أيديهم ، فليأكل بالمعروف ، ولا يلبس عمامة فما فوقها ، وعن إبراهيم : لا يلبس الكتان والحلل ، ولكن ما سد الجوعة ووارى العورة ، وعن محمد بن كعب يتقرم تقرم البهيمة وينزل نفسه منزلة الأجير فيما لا بد منه ، وعن الشعبي : يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه ، وعنه : كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضي ، وعن مجاهد : يستسلف ، فإذا أيسر أدى ، وعن سعيد بن جبير : إن شاء شرب فضل اللبن وركب الظهر ولبس ما يستره من الثياب وأخذ القوت ولا يجاوزه فإن أيسر قضاه ، وإن أعسر فهو في حل ، وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت [ ص: 27 ] بالمعروف ، وإذا أيسرت قضيت واستعف أبلغ من عف ، كأنه طالب زيادة العفة فأشهدوا عليهم : بأنهم تسلموها وقبضوها وبرئت عنها ذممكم ، وذلك أبعد من التخاصم والتجاحد وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة . ألا ترى أنه إذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع اليمين عند أبي حنيفة وأصحابه ، وعند مالك والشافعي لا يصدق إلا بالبينة ، فكان في الإشهاد الاستحراز من توجه الحلف المفضي إلى التهمة أو من وجوب الضمان إذا لم يقم البينة وكفى بالله حسيبا : أي : كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض ، أو محاسبا . فعليكم بالتصادق ، وإياكم والتكاذب .


