مكية، وآياتها [نزلت بعد المسد]
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت
في التكوير وجهان: أن يكون من كورت العمامة إذا لففتها، أي: يلف ضوءها لفا فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق، وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها; لأنها ما دامت باقية كان ضياؤها منبسطا غير ملفوف. أو يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها; لأن الثوب إذا أريد رفعه لف وطوي; ونحوه قوله: يوم نطوي السماء [الأنبياء: 104]. أن يكون من طعنه فجوره وكوره: إذا ألقاه، أي: تلقى وتطرح عن فلكها، كما وصفت النجوم بالانكدار، فإن قلت: ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟ قلت: بل على الفاعلية رافعها فعل مضمر يفسره كورت; لأن "إذا" يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط. انكدرت انقضت قال [من الرجز]:
أبصر خربان فضاء فانكدر
[ ص: 321 ] ويروى في الشمس والنجوم: أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها كما قال: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [الأنبياء: 98]. "سيرت" أي: على وجه الأرض وأبعدت. أو سيرت في الجو تسيير السحاب كقوله: وهي تمر مر السحاب [النمل: 88]. والعشار في جمع عشراء، كالنفاس في جمع نفساء: وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزها عطلت تركت مسيبة مهملة. وقيل: عطلها أهلها عن الحلب والصر، لاشتغالهم بأنفسهم. وقرئ: عطلت بالتخفيف. حشرت جمعت من كل ناحية. قال يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص. وقيل: إذا قضي بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته. كالطاووس ونحوه. وعن قتادة: رضي الله عنهما: حشرها موتها. يقال: إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم حشرتهم السنة. وقرئ: حشرت بالتشديد. "سجرت" قرئ بالتخفيف والتشديد، من سجر التنور: إذا ملأه بالحطب، أي: ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى تعود بحرا واحدا. وقيل: ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار. وعن ابن عباس : يذهب ماؤها فلا تبقى فيها قطرة. الحسن
زوجت قرنت كل نفس بشكلها. وقيل: قرنت الأرواح بالأجساد. وقيل: بكتبها وأعمالها. وعن هو كقوله: الحسن وكنتم أزواجا ثلاثة [الواقعة: 7]. وقيل: نفوس المؤمنين بالحور، ونفوس الكافرين بالشياطين.
وأد يئد مقلوب من آد يؤد: إذا أثقل. قال الله تعالى: ولا يئوده حفظهما [البقرة: 255]. لأنه إثقال بالتراب: كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها: ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية; وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيبيها وزينيها، حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها [ ص: 322 ] ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة; فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابنا حبسته. فإن قلت: ما حملهم على وأد البنات؟ قلت: الخوف من لحوق العار بهم من أجلهن. أو الخوف من الإملاق، كما قال الله تعالى: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [الإسراء: 31]. وكانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به، فهو أحق بهن. وصعصعة بن ناجية ممن منع الوأد; فبه افتخر في قوله [من المتقارب]: الفرزدق
ومنا الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم توأد
"نشرت" قرئ بالتخفيف والتشديد، يريد: صحف الأعمال تطوى صحيفة الإنسان عند موته، ثم تنتشر إذا حوسب. عن : صحيفتك يا ابن قتادة آدم تطوى على عملك، ثم تنشر يوم القيامة، فلينظر رجل ما يملى في صحيفته. وعن رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا ابن عمر آدم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كيف بالنساء؟ فقال: شغل الناس يا أم سلمة: قالت: وما شغلهم؟ قال: نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل [ ص: 323 ] الخردل أم سلمة. " ويجوز أن يراد: نشرت بين أصحابها، أي: فرقت بينهم. وعن يحشر الناس عراة حفاة" فقالت مرثد بن وداعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم؛ أي مكتوب فيها ذلك، وهي صحف غير صحف الأعمال.
كشطت كشفت وأزيلت، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء. وقرأ قشطت. واعتقاب الكاف والقاف كثير. يقال: لبكت الثريد ولبقته، والكافور والقافور. ابن مسعود:
سعرت أوقدت إيقادا شديدا. وقرئ: سعرت بالشديد للمبالغة. قيل: سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم. أزلفت أدنيت من المتقين، كقوله تعالى: وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد [ق: 31]. قيل: هذه اثنتا عشرة خصلة. ست منها في الدنيا، وست في الآخرة. و عملت هو عامل النصب في إذا الشمس كورت وفيما عطف عليه. فإن قلت: كل نفس تعلم ما أحضرت، كقوله: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا [آل عمران: 30]. لا نفس واحدة؛ فما معنى قوله: علمت نفس ؟ قلت: هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه. ومنه قوله عز وجل: ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [الحجر: 2]. ومعناه: معنى كم وأبلغ منه. وقول القائل [من البسيط]:
قد أترك القرن مصفرا أنامله ...................
وتقول لبعض قواد العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: رب فارس عندي. أو لا تعدم عندي فارسا، وعنده المقانب، وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه. ولكنه أراد [ ص: 324 ] إظهار براءته من التزيد، وأنه ممن يقلل كثير ما عنده، فضلا أن يتزيد، فجاء بلفظ التقليل، ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين. وعن رضي الله عنه أن قارئا قرأها عنده، فلما بلغ: ابن مسعود علمت نفس ما أحضرت قال: وانقطاع ظهرياه.