من الذين هادوا بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب : لأنهم يهود ونصارى ، وقوله : والله أعلم : وكفى بالله : وكفى بالله : جمل توسطت بين البيان والمبين على سبيل الاعتراض أو بيان "لأعدائكم" ، وما بينهما اعتراض أو صلة لـ “نصيرا" ، أي : ينصركم من الذين هادوا ، كقوله : ونصرناه من القوم الذين كذبوا [الأنبياء : 77] ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ ، على أن يحرفون صفة مبتدأ محذوف تقديره : من الذين هادوا قوم يحرفون . كقوله [من الطويل] :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
أي : فمنهما تارة أموت فيها يحرفون الكلم عن مواضعه : يميلونه عنها ويزيلونه; لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلما غيره ، فقد أمالوه عن مواضعه التي وضعها الله فيها ، وأزالوه عنها ، وذلك نحو تحريفهم "أسمر ربعة" عن موضعه في التوراة بوضعهم "آدم طوال" مكانه ، ونحو تحريفهم "الرجم" بوضعهم "الحد" بدله . فإن قلت : كيف قيل هاهنا "عن مواضعه" وفي المائدة من بعد مواضعه [المائدة : 41] قلت : أما "عن مواضعه" فعلى ما فسرناه من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه ، وأما من بعد مواضعه فالمعنى : أنه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره ، والمعنيان متقاربان ، وقرئ : "يحرفون الكلام" ، والكلم - بكسر الكاف وسكون اللام - : جمع كلمة تخفيف كلمة . قولهم : غير مسمع : حال من [ ص: 87 ] المخاطب ، أي : اسمع وأنت غير مسمع ، وهو قول ذو وجهين ، يحتمل الذم أي : اسمع منا مدعوا عليك - بلا سمعت - لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع ، فكان أصم غير مسمع . قالوا ذلك اتكالا على أن قولهم : - لا سمعت - دعوة مستجابة أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه ، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك ، فكأنك لم تسمع شيئا . أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ، فسمعك عنه ناب ، ويجوز على هذا أن يكون "غير مسمع" مفعول "اسمع" ، أي : اسمع كلاما غير مسمع إياك ، لأن أذنك لا تعيه نبوا عنه ، ويحتمل المدح ، أي : اسمع غير مسمع مكروها ، من قولك : أسمع فلان فلانا إذا سبه ، وكذلك قولهم : راعنا يحتمل راعنا نكلمك ، أي : ارقبنا وانتظرنا ، ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها ، وهي : راعينا فكانوا - سخرية بالدين وهزؤا برسول الله صلى الله عليه وسلم - يكلمونه بكلام محتمل ، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام ليا بألسنتهم : فتلا بها وتحريفا ، أي : يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل ، حيث يضعون "راعنا" موضع "انظرنا" و "غير مسمع" موضع : لا أسمعت مكروها . أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا . فإن قلت : كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا : سمعنا وعصينا؟ قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ، ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء ، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ، ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به ، وقرأ [ ص: 88 ] "وأنظرنا" من الإنظار وهو الإمهال . فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : أبي : لكان خيرا لهم ؟ قلت : إلى "أنهم قالوا" لأن المعنى ، ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا لكان قولهم ذلك خيرا لهم وأقوم : وأعدل وأسد ولكن لعنهم الله بكفرهم أي : خذلهم بسبب كفرهم ، وأبعدهم عن ألطافه فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا أي : ضعيفا ركيكا لا يعبأ به ، وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره ، أو أراد بالقلة العدم ، كقوله : [من الطويل] :
قليل التشكي للمهم يصيبه
أي : عديم التشكي ، أو إلا قليلا منهم قد آمنوا .