روي : أن بشرا المنافق خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ، ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال : تعال نتحاكم إلى فقال اليهودي عمر بن الخطاب . قضى لنا رسول الله فلم يرض بقضائه . فقال للمنافق : أكذلك؟ قال : نعم . فقال لعمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر : فاشتمل على سيفه ، ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت ، وقال عمر جبريل : إن فرق بين الحق والباطل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنت الفاروق " عمر ، [ ص: 97 ] والطاغوت : كعب بن الأشرف ، سماه الله طاغوتا لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . أو على التشبيه بالشيطان والتسمية باسمه . أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكما إلى الشيطان ، بدليل قوله : وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ، وقرئ : "بما أنزل" "وما أنزل" على البناء للفاعل ، وقرأ عباس بن الفضل : "أن يكفروا بها" ، ذهابا بالطاغوت إلى الجمع ، كقوله : أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم [البقرة : 257] وقرأ "تعالوا" بضم اللام على أنه حذف اللام من تعاليت تخفيفا ، كما قالوا : ما باليت به بالة ، وأصلها بالية كعافية ، وكما قال الحسن في آية: إن أصلها آيية فاعلة ، فحذفت اللام ، فلما حذفت وقعت واو الجمع بعد اللام من تعال فضمت ، فصار "تعالوا" ، نحو ، تقدموا ، ومنه قول أهل الكسائي مكة : تعالي ، بكسر اللام للمرأة ، وفي شعر الحمداني [من الطويل] :
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
[ ص: 98 ] والوجه فتح اللام فكيف يكون حالهم ، وكيف يصنعون؟ يعني أنهم يعجزون عند ذلك فلا يصدرون أمرا ولا يوردونه إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك في الحكم . " ثم جاءوك" حين يصابون فيعتذرون إليك كافرون ويحلفون ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا إحسانا لا إساءة وتوفيقا بين الخصمين ، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطا لحكمك ، ففرج عنا بدعائك وهذا وعيد لهم على فعلهم ، وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم ، ولا يغني عنهم الاعتذار عند حلول بأس الله ، وقيل : جاء أولياء المنافق يطلبون بدمه وقد أهدره الله فقالوا : ما أردنا بالتحاكم إلى إلا أن يحسن إلى صاحبنا بحكومة العدل والتوفيق بينه وبين خصمه ، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به عمر فأعرض عنها : لا تعاقبهم لمصلحة في استبقائهم ، ولا تزد على كفهم بالموعظة والنصيحة عما هم عليه وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا : بالغ في وعظهم بالتخفيف والإنذار . فإن قلت : بم تعلق قوله : في [ ص: 99 ] أنفسهم ؟ قلت : بقوله : "بليغا" أي : قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ، ويستشعرون منه الخوف استشعارا ، وهو التوعد بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق وأطلع قرنه ، وأخبرهم أن ما في نفوسهم من الدغل والنفاق معلوم عند الله ، وأنه لا فرق بينكم وبين المشركين ، وما هذه المكافة إلا لإظهاركم الإيمان وإسراركم الكفر وإضماره ، فإن فعلتم ما تكشفون به غطاءكم لم يبق إلا السيف . أو يتعلق بقوله : وقل لهم أي : قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا ، وأن الله يعلم ما في قلوبكم لا يخفى عليه فلا يغني عنكم إبطانه . فأصلحوا أنفسكم وطهروا قلوبكم وداووها من مرض النفاق ، وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك من انتقامه ، وشرا من ذلك وأغلظ . أو قل لهم في أنفسهم ، خاليا بهم ، ليس معهم غيرهم ، مسارا لهم بالنصيحة ، لأنه في السر أنجع ، وفي الإمحاض أدخل قولا بليغا يبلغ منهم ويؤثر فيهم .