لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحاء أرض الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة ، وقال لهم : إني كتبتها لكم دارا قرارا ، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها ، وإني ناصركم ، وأمر موسى - عليه السلام - بأن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم ، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل ، وتكفل لهم به النقباء وسار بهم ، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون ، فرأوا أجراما عظيمة وقوة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم وقد نهاهم موسى - عليه السلام - أن يحدثوهم ، فنكثوا الميثاق ، إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا ، ويوشع بن نون من سبط أفراييم بن يوسف ، وكانا من النقباء ، والنقيب : الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها ، كما قيل له : عريف ، لأنه يتعرفها إني معكم أي : ناصركم ومعينكم وعزرتموهم : نصرتموهم من أيدي العدو ، ومنه التعزير ، وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد ، وقرئ بالتخفيف يقال : عزرت الرجل إذا أحطته وكنفته ، والتعزير والتأزير من واد واحد ، ومنه : لأنصرنك نصرا مؤزرا ، أي : قويا ، وقيل : معناه : ولقد أخذنا ميثاقهم بالإيمان والتوحيد وبعثنا منهم اثني عشر ملكا يقيمون فيهم العدل ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ، واللام في : لئن أقمتم موطئة للقسم [ ص: 216 ] وفي لأكفرن جواب له ، وهذا الجواب ساد مسد جواب القسم والشرط جميعا بعد ذلك : بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم . فإن قلت : من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضل سواء السبيل . قلت : أجل ، ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم ، لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة ، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وتمادى لعناهم : طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا ، وقيل : مسخناهم وقيل : ضربنا عليهم الجزية وجعلنا قلوبهم قاسية : خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم . أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست ، وقرأ عبد الله : "قسية" ، أي : ردية مغشوشة ، من قولهم : درهم قسي وهو من القسوة; لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين والمغشوش فيه يبس وصلابة ، والقاسي والقاسح - بالحاء - أخوان في الدلالة على اليبس والصلابة وقرئ : "قسية" ، بكسر القاف للإتباع يحرفون الكلم بيان لقسوة قلوبهم; لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير وحيه ونسوا حظا : وتركوا نصيبا جزيلا وقسطا وافيا مما ذكروا به : من التوراة ، يعني أن تركهم وإعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم ، أو قست قلوبهم وفسدت فحرفوا التوراة وزالت أشياء منها عن حفظهم ، وعن - رضي الله عنه - : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية ، وتلا هذه الآية ، وقيل : تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان ابن مسعود بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته ولا تزال تطلع أي : هذه عادتهم وهجيراهم وكان عليها أسلافهم كانوا يخونون الرسل وهؤلاء يخونونك ينكثون عهودك ويظاهرون المشركين على حربك ويهمون بالفتك بك وأن يسموك على خائنة : على خيانة ، أو على فعلة ذات خيانة ، أو على نفس ، أو فرقة خائنة ، ويقال : رجل خائنة ، كقولهم : رجل راوية للشعر للمبالغة ، قال [من الكامل] :
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الإصبع
[ ص: 217 ] وقرئ : "على خيانة" منهم إلا قليلا منهم وهم الذين آمنوا منهم فاعف عنهم : بعث على مخالفتهم ، وقيل : هو منسوخ بآية السيف ، وقيل : فاعف عن مؤمنيهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم .