قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين
أي : ليكونن أحد الأمرين : إما إخراجكم ، وإما عودكم في الكفر .
فإن قلت : كيف خاطبوا شعيبا - عليه السلام - بالعود في الكفر في قولهم : أو لتعودن في ملتنا ، وكيف أجابهم بقوله : إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها والأنبياء - عليهم السلام - لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فيه تنفير ، فضلا عن الكبائر ، فضلا عن الكفر؟
قلت : لما قالوا : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك ، فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم ، قالوا : لتعودن ، فغلبوا الجماعة على الواحد ، فجعلوهم عائدين جميعا ; إجراء للكلام على حكم التغليب ، وعلى ذلك أجرى شعيب - عليه السلام - جوابه ، فقال : إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ، وهو يريد عود [ ص: 475 ] قومه ، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم ، وإن كان بريئا من ذلك ; إجراء لكلامه على حكم التغليب .
فإن قلت : فما معنى قوله : وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ، والله - تعالى - متعال أن يشاء ردة المؤمنين ، وعودهم في الكفر؟
قلت : معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف ، لعلمه أنها لا تنفع فينا ، وتكون عبثا ، والعبث : قبيح لا يفعله الحكيم ، والدليل عليه قوله : وسع ربنا كل شيء علما ، أي : هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون ، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول ، وقلوبهم كيف تتقلب ، وكيف تقسو بعد الرقة ، وتمرض بعد الصحة ، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان على الله توكلنا : في أن يثبتنا على الإيمان ، ويوفقنا لازدياد الإيقان ، ويجوز أن يكون قوله : إلا أن يشاء الله : حسما لطمعهم في العود ; لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة أولو كنا كارهين : الهمزة : للاستفهام ، والواو : واو الحال ، تقديره : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ، ومع كوننا كارهين ، وما يكون لنا ، وما ينبغي لنا ، وما يصح لنا ربنا افتح بيننا : احكم بيننا ، و “ الفتاحة" : الحكومة ، أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا وبين قومنا : وينكشف بأن تنزل عليهم عذابا يتبين معه أنهم على الباطل وأنت خير الفاتحين ; كقوله : وهو خير الحاكمين [يوسف : 80] .
فإن قلت : كيف أسلوب قوله : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم ؟
[ ص: 476 ] قلت : هو إخبار مقيد بالشرط ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون كلاما مستأنفا فيه معنى التعجب ، كأنهم قالوا : ما أكذبنا على الله أن عدنا في الكفر بعد الإسلام ; لأن المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر ; لأن الكافر مفتر على الله الكذب ; حيث يزعم أن لله ندا ولا ند له ، والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه ; حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل .
والثاني : أن يكون قسما على تقدير حذف اللام ، بمعنى : والله لقد افترينا على الله كذبا .