إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل، عقب ذلك ببيان حسنه، وما هو الحق له والشرط فيه، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر والخسة والشرف دون الممثل، فإن التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لأن من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء، وإشارات الحكماء، فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم، وإن كان المثل أعظم من كل عظيم، كما مثل في الإنجيل غل الصدور بالنخالة، والقلوب القاسية بالحصاة. ومخاطبة السفهاء بإثارة الزنابير. وجاء في كلام العرب: أسمع من قراد وأطيش من فراشة، وأعز من مخ البعوض. لا ما قالت الجهلة، من الكفار: لما مثل الله حال المنافقين بحال المستوقدين؟
وأصحاب الصيب وعبادة الأصنام في الوهن والضعف ببيت العنكبوت؟ وجعلها أقل من الذباب وأخس قدرا منه؟ الله سبحانه وتعالى أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال ويذكر الذباب والعنكبوت. وأيضا، لما أرشدهم إلى ما يدل على أن المتحدي به وحي منزل؟ ورتب عليه وعيد من كفر به ووعد من آمن به بعد ظهور أمره؟ شرع في جواب ما طعنوا به فيه فقال تعالى: إن الله لا يستحيي أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها. والحياء: انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم، وهو الوسط بين الوقاحة:
التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها، والخجل: الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا.
واشتقاقه من الحياة فإنه انكسار يعتري القوة الحيوانية فيردها عن أفعالها فقيل: حيي الرجل كما يقال نسي وحشي، إذا اعتلت نساه وحشاه. وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث « » . « إن الله يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه » إن الله حي كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا
فالمراد به الترك اللازم للانقباض، كما أن المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما، ونظيره قول من يصف إبلا:
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه... كرعن بسبت في إناء من الورد
وإنما عدل به عن الترك، لما فيه من التمثيل والمبالغة، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيئه على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة. وضرب المثل اعتماله من ضرب الخاتم، وأصله وقع شيء على آخر، وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند وما إبهامية تزيد النكرة إبهاما وشياعا وتسد عنها طرق التقييد، كقولك أعطني كتابا ما، أي: أي كتاب كان. أو مزيدة للتأكيد كالتي في قوله تعالى: سيبويه. فبما رحمة من الله ولا نعني بالمزيد اللغو الضائع، فإن القرآن كله هدى وبيان، بل ما لم يوضع لمعنى يراد منه، وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيد له وثاقة وقوة وهو زيادة في الهدى غير قادح فيه. وبعوضة عطف بيان لمثلا. أو مفعول ليضرب، ومثلا حال تقدمت عليه لأنه [ ص: 63 ] نكرة. أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل. وقرئت بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وعلى هذا يحتمل ما وجوها أخر: أن تكون موصولة حذف صدر صلتها، كما حذف في قوله: تماما على الذي أحسن وموصوفة بصفة كذلك، ومحلها النصب بالبدلية على الوجهين. واستفهامية هي المبتدأ، كأنه لما رد استبعادهم ضرب الله الأمثال، قال بعده: ما البعوضة فما فوقها حتى لا يضرب به المثل، بل له أن يمثل بما هو أحقر من ذلك. ونظيره فلان لا يبالي مما يهب ما دينار وديناران. والبعوض: فعول من البعض، وهو القطع كالبضع والعضب، غلب على هذا النوع كالخموش.
فما فوقها عطف على بعوضة، أو (ما) إن جعل اسما، ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت، كأنه قصد به رد ما استنكروه. والمعنى: أنه لا يستحيي ضرب المثل بالبعوض فضلا عما هو أكبر منه، أو في المعنى الذي جعلت فيه مثلا، وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضربه مثلا للدنيا، ونظيره في الاحتمالين ما روي أن رجلا بمنى خر على طنب فسطاط فقالت رضي الله عنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « عائشة » . فإنه يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور وما زاد عليها في القلة كنخبة النملة، لقوله عليه الصلاة والسلام « ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها، إلا كتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة » .
فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم (أما) حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط، ولذلك يجاب بالفاء. قال أما زيد فذاهب معناه، مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، أي هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء، لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها على الخبر، وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا، وفي تصديره الجملتين به إحماد لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم، وذم بليغ للكافرين على قولهم، والضمير في (أنه) للمثل، أو لأن يضرب. و سيبويه: الحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة، من قولهم حق الأمر، إذا ثبت ومنه: ثوب محقق أي: محكم النسج.
وأما الذين كفروا فيقولون كان من حقه: وأما الذين كفروا فلا يعلمون، ليطابق قرينه ويقابل قسيمه، لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه.
ماذا أراد الله بهذا مثلا يحتمل وجهين: أن تكون « ما » استفهامية و « ذا » بمعنى الذي وما بعده صلته، والمجموع خبر ما. وأن تكون « ما » مع « ذا » اسما واحدا بمعنى: أي شيء، منصوب المحل على المفعولية مثل ما أراد الله، والأحسن في جوابه الرفع على الأول، والنصب على الثاني، ليطابق الجواب السؤال.
والإرادة: نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه، وتقال للقوة التي هي مبدأ النزوع، والأول مع الفعل والثاني قبله، وكلا المعنيين غير متصور اتصاف الباري تعالى به، ولذلك اختلف في معنى إرادته فقيل: إرادته لأفعاله أنه غير ساه ولا مكره، ولأفعال غيره أمره بها. فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته، وقيل: علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل والوجه الأصلح فإنه يدعو القادر إلى تحصيله، والحق: أنه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه، أو معنى يوجب هذا الترجيح، وهي أعم من الاختيار فإنه ميل مع تفضيل وفي هذا استحقار واسترذال. و مثلا نصب على التمييز، أو الحال كقوله تعالى: هذه ناقة الله لكم آية .
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا جواب ماذا، أي: إضلال كثير وإهداء كثير، وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدد، أو بيان للجملتين المصدرتين بإما، وتسجيل بأن العلم بكونه حقا هدى وبيان، وأن الجعل بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده ضلال وفسوق، وكثرة كل واحد من القبيلتين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم، فإن المهديين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى: [ ص: 64 ] وقليل ما هم ، وقليل من عبادي الشكور ويحتمل أن يكون كثرة الضالين من حيث العدد، وكثرة المهديين باعتبار الفضل والشرف كما قال:
قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا
وقال:
إن الكرام كثير في البلاد وإن... قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
وما يضل به إلا الفاسقين أي الخارجين عن حد الإيمان، كقوله تعالى: إن المنافقين هم الفاسقون من قولهم: فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت. وأصل الفسق: الخروج عن القصد قال رؤبة:
فواسقا عن قصدها جوائرا
والفاسق في الشرع: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، وله درجات ثلاث:
الأولى: التغابي وهو أن يرتكبها أحيانا مستقبحا إياها.
الثانية: الانهماك وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها.
الثالثة: الجحود وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها، فإذا شارف هذا المقام وتخطى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولابس الكفر. وما دام هو في درجة التغابي أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان، ولقوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا والمعتزلة لما قالوا: الإيمان: عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل، والكفر تكذيب الحق وجحوده. جعلوه قسما ثالثا نازلا بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركته كل واحد منهما في بعض الأحكام، وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال، وأدى بهم إلى الضلال. وذلك لأن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به، حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه واستهزءوا به. وقرئ يضل بالبناء للمفعول و « الفاسقون » بالرفع.