فإذا انسلخ أي: انقضى، استعير له من الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده، والأغلب إسناده إلى الجلد، والمعنى: إذا انقضى الأشهر الحرم وانفصلت عما كانت مشتملة عليه ساترة له انفصال الجلد عن الشاة، وانكشفت عنه انكشاف الحجاب عما وراءه، كما ذكره أبو الهيثم من أنه يقال: أهللنا شهر كذا، أي: دخلنا فيه ولبسناه، فنحن نزداد كل ليلة لباسا منه إلى مضي نصفه، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءا فجزءا، حتى نسلخه عن أنفسنا كله فينسلخ، وأنشد:
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي
وتحقيقه أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات، مشتمل عليه اشتمال الجلد للحيوان، وكذا كل جزء من أجزائه الممتدة من الأيام والشهور والسنين، فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه، وفيه مزيد لطف لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهر كانت حرزا لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدي المسلمين، فنيط قتالهم بزوالها، والمراد بها: إما ما مر من فقط - ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة - تأكيدا لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها، أو هي مع ما فهم من قوله تعالى: الأشهر الأربعة فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم من تتمة مدة بقيت لغير الناكثين، فعلى الأول يكون المراد بالمشركين في قوله تعالى: فاقتلوا المشركين الناكثين خاصة، فلا يكون قتال الباقين مفهوما من عبارة النص، بل من دلالته، وعلى الثاني مفهوما من العبارة إلا أنه يكون الانسلاخ وما نيط به من القتال حينئذ شيئا فشيئا لا دفعة واحدة، كأنه قيل: فإذا تم ميقات كل طائفة فاقتلوهم، وحملها على الأشهر المعهودة الدائرة في كل سنة لا يساعده النظم الكريم، وأما أنه يستدعي بقاء حرمة القتال فيها - إذ ليس فيما نزل بعد ما ينسخها - فلا اعتداد به لا لأنها نسخت بقوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) كما توهم، فإنه رجم بالغيب - لأنه إن أريد به ما في سورة الأنفال فإنه نزل عقيب وقد صح أن المراد بالذين كفروا في قوله تعالى: غزوة بدر، قل للذين كفروا ... إلخ، وأصحابه، وقد أسلم في أواسط رمضان عام الفتح سنة ثمان، وسورة التوبة إنما نزلت في شوال سنة تسع، وإن أريد ما في سورة البقرة فإنه أيضا نزل قبل الفتح، كما يعرب عنه ما قبله من قوله تعالى: أبو سفيان وأخرجوهم من حيث أخرجوكم أي: من مكة ، وقد فعل ذلك يوم الفتح، فكيف ينسخ به ما ينزل بعده؟! - بل لأن انعقاد الإجماع على انتساخها كاف في الباب من غير حاجة إلى كون سنده منقولا إلينا، وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم.
حيث وجدتموهم من حل وحرم وخذوهم أي: أيسروهم، والأخيذ الأسير واحصروهم أي: قيدوهم، أو امنعوهم من التقلب في البلاد.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما -: حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام.
واقعدوا لهم كل مرصد أي: كل ممر ومجتاز يجتازون منه في أسفارهم، وانتصابه على الظرفية، أي: ارصدوهم وراقبوهم حتى لا يمروا به، [ ص: 44 ] وفائدته على التفسير الثاني دفع احتمال أن يراد بالحصر المحاصرة المعهودة.
فإن تابوا عن الشرك بالإيمان بعدما اضطروا بما ذكر من القتل والأسر والحصر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة تصديقا لتوبتهم وإيمانهم، واكتفي بذكرهما عن ذكر بقية العبادات لكونهما رأسي العبادات البدنية والمالية فخلوا سبيلهم فدعوهم وشأنهم، ولا تتعرضوا لهم بشيء مما ذكر إن الله غفور رحيم يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر، ويثيبهم بإيمانهم وطاعاتهم، وهو تعليل للأمر بتخلية السبيل.