يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير
يحلفون بالله ما قالوا استئناف لبيان ما صدر عنهم من الجرائم الموجبة لما مر من الأمر بالجهاد والغلظة عليهم ودخول جهنم، روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين، فيسمعه من كان منهم معه - صلى الله عليه وسلم - فقال الجلاس بن سويد منهم: لئن كان ما يقول محمد حقا لإخواننا الذين خلفناهم - وهم ساداتنا وأشرافنا - فنحن شر من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس: أجل، والله إن محمدا لصادق، وأنت شر من الحمار، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فاستحضر، فحلف بالله ما قال فرفع عامر يده، فقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق فنزل، وإيثار صيغة الاستقبال في (يحلفون) لاستحضار الصورة، أو للدلالة على تكرير الحلف، وصيغة الجمع في "قالوا" مع أن القائل هو الجلاس؛ للإيذان بأن بقيتهم برضاهم بقوله صاروا بمنزلة القائل.
ولقد قالوا كلمة الكفر هي ما حكي آنفا، والجملة مع ما عطف عليها اعتراض وكفروا بعد إسلامهم أي: وأظهروا ما في قلوبهم من الكفر بعد إظهارهم الإسلام وهموا بما لم ينالوا هو الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أنه توافق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه - صلى الله عليه وسلم - عن راحلته إذا تسنم العقبة بالليل، وكان آخذا بخطام راحلته يقودها، عمار بن ياسر خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع وحذيفة بن اليمان بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا، وقيل: هم المنافقون، هموا بقتل حذيفة عامر لرده على الجلاس، وقيل: أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي ابن سلول، وإن لم يرض به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نقموا أي: وما أنكروا وما عابوا، أو وما وجدوا ما يورث نقمتهم إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله سبحانه وتعالى، وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة في غاية ما يكون من ضنك العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فأثروا بالغنائم، وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بديته اثني عشر ألف درهم فاستغنى، والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل، أو من أعم العلل، أي: وما [ ص: 85 ] أنكروا شيئا من الأشياء إلا أغناه الله تعالى إياهم، أو وما أنكروا ما أنكروا لعلة من العلل إلا لإغناء الله إياهم.
فإن يتوبوا عما هم عليه من الكفر والنفاق يك خيرا لهم في الدارين، قيل: لما تلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الجلاس: يا رسول الله، لقد عرض الله علي التوبة والله لقد قلت وصدق عامر، فتاب الجلاس وحسنت توبته وإن يتولوا أي: استمروا على ما كانوا عليه من التولي والإعراض عن الدين، أو أعرضوا عن التوبة بعد هذا العرض يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا بالقتل والأسر والنهب وغير ذلك من فنون العقوبات والآخرة بالنار وغيرها من أفانين العقاب وما لهم في الأرض مع سعتها وتباعد أقطارها وكثرة أهلها المصححة لوجدان ما نفي بقوله عز وجل: من ولي ولا نصير ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة.