فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم .
[ ص: 167 ] فإن آمنوا : الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ فإن ما تقدم من إيمان المخاطبين على الوجه المحرر مظنة لإيمان أهل الكتابين؛ لما أنه مشتمل على ما هو مقبول عندهم؛ بمثل ما آمنتم به ؛ أي: بما آمنتم به على الوجه الذي فصل؛ على أن المثل مقحم؛ كما في قوله (تعالى): وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ؛ أي: عليه؛ ويعضده قراءة "بما آمنتم به"؛ وقراءة ابن مسعود: "بالذي آمنتم به"؛ ويجوز أن تكون الباء للاستعانة على أن المؤمن به محذوف؛ لظهوره؛ بمروره آنفا؛ أو على أن الفعل مجرى مجرى اللازم؛ أي: فإن آمنوا بما مر مفصلا؛ أو فإن فعلوا الإيمان بشهادة مثل شهادتكم؛ وأن تكون الأولى زائدة؛ والثانية صلة لـ "آمنتم"؛ و"ما": مصدرية؛ أي: فإن آمنوا إيمانا مثل إيمانكم بما ذكر مفصلا؛ وأن تكون للملابسة؛ أي: فإن آمنوا ملتبسين بمثل ما آمنتم ملتبسين به؛ أو فإن آمنوا إيمانا ملتبسا بمثل ما آمنتم إيمانا ملتبسا به من الإذعان؛ والإخلاص؛ وعدم التفريق بين الأنبياء - عليهم السلام -؛ فإن ما وجد فيهم وصدر عنهم من الشهادة؛ والإذعان؛ وغير ذلك؛ مثل ما للمؤمنين؛ لا عينه؛ بخلاف المؤمن به؛ فإنه لا يتصور فيه التعدد؛ أبي: فقد اهتدوا إلى الحق؛ وأصابوه؛ كما اهتديتم؛ وحصل بينكم الاتحاد؛ والاتفاق؛ وأما ما قيل من أن المعنى: فإن تحروا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم؛ فقد اهتدوا؛ فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطريق؛ فيأباه أن مقام تعيين طريق الحق؛ وإرشادهم إليه بعينه؛ لا يلائم تجويز أن يكون له طريق آخر وراءه؛ وإن تولوا ؛ أي: أعرضوا عن الإيمان؛ على الوجه المذكور؛ بأن أخلوا بشيء من ذلك؛ كأن آمنوا ببعض؛ وكفروا ببعض؛ كما هو دينهم؛ وديدنهم؛ فإنما هم في شقاق ؛ المشاقة؛ والشقاق: من "الشق"؛ كـ "المخالفة"؛ و"الخلاف"؛ من "الخلف"؛ و"المعاداة"؛ و"العداء"؛ من "العدوة"؛ أي: "الجانب"؛ فإن أحد المخالفين يعرض عن الآخر؛ صورة؛ أو معنى؛ ويوليه خلفه؛ ويأخذ في شق غير شقه؛ وعدوة غير عدوته؛ والتنوين للتفخيم؛ أي: هم مستقرون في خلاف عظيم؛ بعيد من الحق؛ وهذا لدفع ما يتوهم من احتمال الوفاق؛ بسبب إيمانهم ببعض ما آمن به المؤمنون؛ والجملة إما جواب الشرط؛ كما هي؛ على أن المراد مشاقتهم الحادثة بعد توليتهم عن الإيمان؛ كجواب الشرطية الأولى؛ وإنما أوثرت الجملة الاسمية للدلالة على ثباتهم؛ واستقرارهم في ذلك؛ وإما بتأويل "فاعلموا أنما هم في شقاق؛ هذا هو الذي يستدعيه فخامة شأن التنزيل الجليل؛ وقد قيل: قوله (تعالى): فإن آمنوا ؛ إلخ.. من باب التعجيز؛ والتبكيت؛ على منهاج قوله (تعالى): فأتوا بسورة من مثله ؛ والمعنى: فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم مماثلا له في الصحة؛ والسداد؛ فقد اهتدوا؛ وإذ لا إمكان له؛ فلا إمكان لاهتدائهم؛ ولا ريب في أنه مما لا يليق بحمل النظم الكريم عليه؛ ولما دل تنكير الشقاق على امتناع الوفاق؛ وأن ذلك مما يؤدي إلى الجدال؛ والقتال؛ لا محالة؛ عقب ذلك بتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفريح المؤمنين بوعد النصر؛ والغلبة؛ وضمان التأييد؛ والإعزاز؛ وعبر بالسين الدالة على تحقق الوقوع البتة؛ فقيل: فسيكفيكهم الله ؛ أي: سيكفيك شقاقهم؛ فإن الكفاية لا تتعلق بالأعيان؛ بل بالأفعال؛ وقد أنجز - عز وجل - وعده الكريم؛ بقتل بني قريظة؛ وسبيهم؛ وإجلاء بني [ ص: 168 ] النضير. وتلوين الخطاب بتجريده للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ مع أن ذلك كفاية منه - سبحانه - للكل؛ لما أنه الأصل؛ والعمدة في ذلك؛ وللإيذان بأن القيام بأمور الحروب؛ وتحمل المؤن والمشاق؛ ومقاساة الشدائد؛ في مناهضة الأعداء؛ من وظائف الرؤساء؛ فنعمته (تعالى) في الكفاية؛ والنصر؛ في حقه - عليه الصلاة والسلام - أتم وأكمل؛ وهو السميع العليم : تذييل لما سبق من الوعد؛ وتأكيد له؛ والمعنى أنه (تعالى) يسمع ما تدعون به؛ ويعلم ما في نيتك من إظهار الدين؛ فيستجيب لك؛ ويوصلك إلى مرادك. أو وعيد للكفرة؛ أي: يسمع ما ينطقون به؛ ويعلم ما يضمرونه في قلوبهم؛ مما لا خير فيه؛ وهو معاقبهم عليه؛ ولا يخفى ما فيه من تأكيد الوعد السابق؛ فإن وعيد الكفرة وعد للمؤمنين.