ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين
ولما جهزهم بجهازهم أي: أصلحهم بعدتهم من الزاد وما يحتاج إليه المسافر، وأوقر ركائبهم بما جاءوا له من الميرة، وقرئ بكسر الجيم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم لم يقل بأخيكم؛ مبالغة في إظهار عدم معرفته لهم، ولعله - عليه السلام - إنما قاله لما قيل من أنهم سألوه - عليه السلام - حملا زائدا على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك، وشرطهم أن يأتوا به، لا لما قيل من أنه لما رأوه وكلموه بالعبرية، قال لهم: من أنتم فإني أنكركم؟! فقالوا له: نحن قوم من أهل الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا نمتار، فقال لهم، لعلكم جئتم عيونا؟ فقالوا: معاذ الله! نحن إخوة من أب واحد، وهو شيخ كبير صديق نبي من الأنبياء، اسمه يعقوب، قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحد، فقال: كم أنتم؟ قالوا: عشرة، قال فأين الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك، قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم عيونا وأن ما تقولون حق؟ قالوا: نحن ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا، قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم، وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون، فخلفوه عنده، إذ لا يساعده ورود الأمر بالإتيان به عند التجهيز، ولا الحث عليه بإيفاء الكيل، ولا الإحسان في الإنزال، ولا الاقتصار على منع الكيل على تقدير عمد الإتيان به، ولا جعل بضاعتهم في رحالهم لأجل رجوعهم، ولا عدتهم بالإتيان به بطريق المراودة، ولا تعليلهم عند أبيهم إرسال أخيهم بمنع الكيل من غير ذكر الرسالة، على أن استبقاء شمعون لو وقع لكان ذلك طامة ينسى عندها كل قيل وقال.
ألا ترون أني أوفي الكيل أتمه لكم، وإيثار صيغة الاستقبال - مع كون هذا الكلام بعد التجهيز - للدلالة على أن ذلك عادة له مستمرة وأنا خير المنزلين جملة حالية، أي: ألا ترون أني أوفي الكيل لكم إيفاء مستمرا، والحال أني في غاية الإحسان في إنزالكم وضيافتكم، وقد كان الأمر كذلك، وتخصيص الرؤية بالإيفاء لوقوع الخطاب في أثنائه، وأما الإحسان في الإنزال فقد كان مستمرا فيما سبق ولحق، ولذلك أخبر عنه بالجملة الاسمية، ولم يقله - عليه السلام - بطريق الامتنان بل لحثهم على تحقيق ما أمرهم به، والاقتصار في الكيل على ذكر الإيفاء؛ لأن معاملته - عليه السلام - معهم في ذلك كمعاملته مع غيرهم في مراعاة مواجب العدل، وأما الضيافة فليس للناس فيها حق فخصهم في ذلك بما شاء.