فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم
فبدأ يوسف بعدما رجعوا إليه للتفتيش بأوعيتهم بأوعية الإخوة العشرة، أي: بتفتيشها قبل تفتيش وعاء أخيه بنيامين لنفي التهمة.
روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه قال: ما أظن هذا أخذ شيئا! فقالوا: والله لا نتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا.
ثم استخرجها أي: السقاية، أو الصواع فإنه يذكر ويؤنث من وعاء أخيه لم يقل منه على رجع الضمير إلى الوعاء، أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصدا إلى زيادة كشف وبيان، وقرئ بضم الواو وبقلبها همزة كما في أشاح في وشاح.
كذلك نصب على المصدرية، والكاف مقحمة للدلالة على فخامة المشار إليه، وكذا ما في ذلك من معنى البعد، أي: مثل ذلك الكيد العجيب، وهو عبارة عن إرشاد الإخوة إلى الإفتاء المذكور بإجرائه على ألسنتهم وبحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا، فمعنى قوله عز وجل: كدنا ليوسف صنعنا له ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس الصواع وما يتلوه، فاللام ليست كما في قوله: "فيكيدوا لك كيدا" فإنها داخلة على المتضرر على ما هو الاستعمال الشائع.
وقوله تعالى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك استئناف وتعليل لذلك الكيد وصنعه لا تفسير وبيان له كما قيل، كأنه قيل: لماذا فعل ذلك؟ فقيل: لأنه لم يكن ليأخذ أخاه بما فعله في دين الملك في أمر السارق - أي: في سلطانه، قاله [ ص: 297 ] أو في حكمه وقضائه، قاله ابن عباس، - إلا به؛ لأن جزاء السارق في دينه إنما كان ضربه وتغريمه ضعف ما أخذ دون الاسترقاق والاستعباد، كما هو شريعة قتادة يعقوب - عليه السلام - فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بالسرقة التي نسبها إليه في حال من الأحوال.
إلا أن يشاء الله أي: إلا حال مشيئته التي هي عبارة عن إرادته لذلك الكيد، أو إلا حال مشيئته للأخذ بذلك الوجه، ويجوز أن يكون الكيد عبارة عنه وعن مبادئه المؤدية إليه جميعا من إرشاد يوسف وقومه إلى ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال حسبما شرح مرتبا، لكن لا على أن يكون القصر المستفاد من تقديم المجرور مأخوذا بالنسبة إلى غيره مطلقا على معنى مثل ذلك الكيد كدنا لا كيدا آخر - إذ لا معنى لتعليله بعجز يوسف عن أخذ أخيه في دين الملك في شأن السارق قطعا، إذا لا علاقة بين مطلق الكيد ودين الملك في أمر السارق أصلا - بل بالنسبة إلى بعضه على معنى مثل ذلك الكيد البالغ إلى هذا الحد كدنا له، ولم نكتف ببعض من ذلك؛ لأنه لم يكن يأخذ أخاه في دين الملك به إلا حال مشيئتنا له بإيجاد ما يجري مجرى الجزاء الصوري من العلة التامة، وهو إرشاد إخوته إلى الإفتاء المذكور، وعلى هذا ينبغي أن يحمل القصر في تفسير من فسر قوله تعالى: "كدنا ليوسف" بقوله علمناه إياه وأوحينا به إليه، أي: مثل ذلك التعليم المستتبع لما شرح مرتبا علمناه دون بعض من ذلك فقط... إلخ.
وعلى كل حال فالاستثناء من أعم الأحوال كما أشير إليه، ويجوز أن يكون من أعم العلل والأسباب، أي: لم يكن يأخذ أخاه لعلة من العلل أو بسبب من الأسباب إلا لعلة مشيئته تعالى، أو إلا بسبب مشيئته تعالى، وأيا ما كان فهو متصل؛ لأن أخذ السارق إذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده دينا - لا سيما عند رضاه وإفتائه به - ليس مخالفا لدين الملك.
وقد قيل: معنى الاستثناء إلا أن يشاء الله أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك، وأنت تدري أن المراد بدينه: ما عليه حينئذ، فتغييره مخل بالاتصال، وإرادة مطلق ما يتدين به أعم منه ومما يحدث تفضي إلى كون الاستثناء من قبيل التطبيق بالمحال، إذ المقصود بيان عجز يوسف - عليه السلام - عن أخذ أخيه حينئذ، ولم تتعلق المشيئة بالجعل المذكور إذ ذاك، وإرادة عجزه مطلقا تؤدي إلى خلاف المراد، فإن استثناء حال المشيئة المذكورة من أحوال عجزه - عليه السلام - مما يشعر بعدم الحاجة إلى الكيد المذكور، فتدبر، وقد جوز الانقطاع، أي: لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه في دين غير دين الملك.
نرفع درجات أي: رتبا كثيرة عالية من العلم، وانتصابها على المصدرية أو الظرفية، أو على نزع الخافض، أي: إلى درجات، والمفعول قوله تعالى: من نشاء أي: نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة، كما رفعنا يوسف ، وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بأن ذلك سنة مستمرة غير مختصة بهذه المادة، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب وفوق كل ذي علم من أولئك المرفوعين عليم لا ينالون شأوه، واعلم أنه إن جعل الكيد عبارة عن المعنيين الأولين فالمراد برفع يوسف - عليه السلام - ما اعتبر فيه بالشرطية أو الشطرية من إرشاده - عليه السلام - إلى دس الصواع في رحل أخيه، وما يتفرع عليه من المقدمات المرتبة لاستبقاء أخيه مما يتم من قبله، والمعنى: أرشدنا إخوته إلى الإفتاء المذكور؛ لأنه لم يكن متمكنا من أخذ أخيه بدونه، أو أرشدنا كلا منهم ومن يوسف وأصحابه إلى ما صدر عنهم، ولم نكتف بما تم من قبل يوسف فقط؛ لأنه لم يكن متمكنا من أخذ أخيه بذلك، فقوله تعالى: "نرفع درجات" إلى [ ص: 298 ] قوله تعالى: "عليم" توضيح لذلك، على معنى أن الرفع المذكور لا يوجب تمام مرامه إذ ليس ذلك بحيث لا يعزب عن علمه شيء، بل إنما نرفع كل من نرفع حسب استعداده، وفوق كل واحد منهم عليم لا يقادر قدر علمه، ولا يكتنه كنهه، يرفع كلا منهم إلى ما يليق به من معارج العلم ومدارجه، وقد رفع يوسف إلى ما يليق به من الدرجات العالية، وعلم أن ما حواه دائرة علمه لا يفي بمرامه، فأرشد إخوته إلى الإفتاء المذكور فكان ما كان، وكأنه - عليه السلام - لم يكن على يقين من صدور الإفتاء المذكور عن إخوته، وإن كان على طمع منه، فإن ذلك إلى الله - عز وجل - وجودا وعدما، والتعرض لوصف العلم لتعيين جهة الفوقية، وفي صيغة المبالغة مع التنكير والالتفات إلى الغيبة من الدلالة على فخامة شأنه - عز وعلا - وجلالة مقدار علمه المحيط ما لا يخفى.
وأما إن جعل عبارة عن التعليم المستتبع للإفتاء المذكور فالرفع عبارة عن ذلك التعليم والإفتاء، وإن لم يكن داخلا تحت قدرته - عليه السلام - لكنه كان داخلا تحت علمه بواسطة الوحي والتعليم، والمعنى: مثل ذلك التعليم البالغ إلى هذا الحد علمناه، ولم نقتصر على تعليم ما عدا الإفتاء الذي سيصدر عن إخوته إذ لم يكن متمكنا من أخذ أخيه إلا بذلك، فقوله: "نرفع درجات من نشاء" توضيح لقوله: "كدنا" وبيان لأن ذلك من باب الرفع إلى الدرجات العالية من العلم، ومدح ليوسف برفعه إليها، وقوله: "وفوق كل ذي علم عليم" تذييل له، أي: نرفع درجات عالية من العلم من نشاء رفعه، وفوق كل منهم عليم هو أعلى درجة.
قال - رضي الله عنهما -: فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى. ابن عباس
والمعنى: إن إخوة يوسف - عليه السلام - كانوا علماء إلا أن يوسف - عليه السلام - أفضل منهم، وقرئ (درجات من نشاء) بالإضافة، والأول أنسب بالتذييل، حيث نسب فيه الرفع إلى من نسب إليه الفوقية لا إلى درجته، ويجوز أن يكون العليم في هذا التفسير أيضا عبارة عن الله - عز وجل - أي: وفوق كل من أولئك المرفوعين عليم يرفع كلا منهم إلى درجته اللائقة به، والله تعالى أعلم.