لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا
لن يستنكف المسيح استئناف مقرر لما سبق من التنزيه ، والاستنكاف: الأنفة والترفع من نكفت الدمع إذا نحيته عن وجهك بالأصبع أي: لن يأنف ولن يترفع.
أن يكون عبدا لله أي: عن أن يكون عبدا له تعالى مستمرا على عبادته وطاعته حسبما هو وظيفة العبودية كيف وأن ذلك أقصى مراتب الشرف ، والاقتصار على ذكر عدم استنكافه عليه السلام عنه مع أن شأنه عليه السلام المباهاة به كما يدل عليه أحواله ويفصح عنه أقواله أو لا يرى أن أول مقالة قالها للناس قوله إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا لوقوعه في موقع الجواب عما قاله الكفرة. روي أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى، قال: وأي شيء أقول؟ قالوا: تقول إنه عبد الله، قال: إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله قالوا: بلى فنزلت. وهو السر في جعل المستنكف عنه كونه عليه السلام عبدا له تعالى دون أن يقال عن عبادة الله ونحو ذلك مع إفادة فائدة جليلة هي كمال نزاهته عليه السلام عن الاستنكاف بالكلية فإن كونه عبدا له تعالى حالة مستمرة لدوام العبادة قطعا فعدم الاستنكاف عنه مستلزم لعدم الاستنكاف [ ص: 261 ] عن عبادته تعالى كما أشير إليه بخلاف عبادته تعالى فإنها حالة متجددة غير مستلزمة للدوام يكفي في اتصاف موصوفها بها تحققها مرة فعدم الاستنكاف عنها لا يستلزم عن دوامها. ولا الملائكة المقربون عطف على المسيح أي: ولا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا لله تعالى. وقيل: إن أريد بالملائكة كل واحد منهم لم يحتج إلى التقدير واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام وقال: مساقه لرد النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية وذلك يقتضي أن يكون المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه حتى يكون عدم استنكافهم مستلزما لعدم استنكافه عليه السلام وأجيب بأن مناط كفر النصارى ورفعهم له عليه السلام عن رتبة العبودية لما كان اختصاصه عليه السلام وامتيازه عن سائر أفراد البشر بالولادة من غير أب وبالعلم من المغيبات وبالرفع إلى السماء عطف على عدم استنكافه عن عبوديته تعالى عدم استنكاف من هو أعلى درجة منه فيما ذكر فإن الملائكة مخلوقون من غير أب ولا أم وعالمون بما لا يعلمه البشر من المغيبات ومقارهم السموات العلا ولا نزاع لأحد في علو درجتهم من هذه الحيثية وإنما النزاع في علوها من حيث كثرة الثواب على الطاعات وبأن الآية ليست للرد على النصارى فقط بل على عبدة الملائكة أيضا فلا اتجاه لما قالوا حينئذ وإن سلم اختصاصها بالرد على النصارى فلعله أريد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير والتفصيل لا باعتبار التكبير والتفضيل كما في قولك: "أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس" ولئن سلم إرادة التفضيل فغاية الأمر الدلالة على أفضلية المقربين منهم وهم الكروبيون الذين حول العرش أو من هو أعلى منهم رتبة من الملائكة عليهم السلام على المسيح من الأنبياء عليهم السلام وليس يلزم من ذلك فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا وهل التشاجر إلا فيه. ومن يستنكف عن عبادته أي: عن طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم له تعالى وإنما جعل المستنكف عنه ههنا عبادته تعالى لا ما سبق لتعليق الوعيد بوصف ظاهر الثبوت للكفرة، فإن عدم طاعتهم له تعالى مما لا سبيل لهم إلى إنكار اتصافهم به. إن قيل: لم عبر عن عدم طاعتهم له تعالى بالاستنكاف عنها مع أن ذلك منهم كان بطريق إنكار كون الأمر من جهته تعالى لا بطريق الاستنكاف؟ قلنا: لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل هو إلا استنكاف عن طاعة الله تعالى ؟ إذ لا أمر له عليه الصلاة والسلام سوى أمره تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله. ويستكبر الاستكبار: الأنفة عما لا ينبغي أن يؤنف عنه وأصله طلب الكبر لنفسه بغير استحقاق له لا بمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله فيه بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك وإنما عبر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن مآله محض الطلب بدون حصول المطلوب وقد عبر عن مثل ذلك بنفس الطلب في قوله تعالى: يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا فإنهم ما كانوا يطلبون ثبوت العوج لسبيل الله مع اعتقادهم لاستقامتها بل كانوا يعدونها ويعتقدونها معوجة ويحكمون بذلك ولكن عبر عن ذلك بالطلب لما ذكر من الإشعار بأن ليس هناك شيء سوى الطلب والاستكبار دون الاستنكاف المنبئ عن توهم لحوق العار والنقص من المستنكف عنه. فسيحشرهم إليه جميعا أي: المستنكفين ومقابليهم المدلول عليه بذكر عدم استنكاف المسيح والملائكة عليهم السلام، وقد ترك ذكر أحد الفريقين في المفصل تعويلا على إنباء التفصيل عنه وثقة [ ص: 262 ] بظهور اقتضاء حشر أحدهما لحشر الآخر ضرورة عموم الحشر للخلائق كافة كما ترك ذكر أحد الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى: فأما الذين آمنوا بالله الآية مع عموم الخطاب لهما اعتمادا على ظهور اقتضاء إثابة أحدهما لعقاب الآخر ضرورة شمول الجزاء للكل. وقيل: الضمير للمستنكفين وهناك مقدر معطوف عليه والتقدير: فسيحشرهم وغيرهم. وقيل: المعنى: فسيحشرهم إليه يوم يحشر العباد لمجازاتهم، وفيه أن الأنسب بالتفصيل الآتي اعتبار حشر الكل في الإجمال على نهج واحد، وقرئ "فسيحشرهم" بكسر الشين وهي لغة ، وقرئ "فسنحشرهم" بنون العظمة بطريق الالتفات.