إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم
[ ص: 1155 ] لما ذكر فيما تقدم صار ذلك كأنه مقدمة لهذه القصة، التي وقعت على أشرف النساء، أم المؤمنين - رضي الله عنها - وهذه الآيات تعظيم الرمي بالزنا عموما، . نزلت في قصة الإفك المشهورة الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد
وحاصلها فانقطع عقدها، فانحبست في طلبه، ورحلوا جملها وهودجها فلم يفقدوها، ثم استقل الجيش راحلا وجاءت مكانهم، وعلمت أنهم إذا فقدوها رجعوا إليها، فاستمروا في مسيرهم، وكان عائشة الصديقة بنت الصديق، من أفاضل الصحابة - رضي الله عنه - قد عرس في أخريات القوم ونام، فرأى صفوان بن المعطل السلمي - رضي الله عنها - فعرفها، فأناخ راحلته، فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه، ثم جاء يقود بها بعدما نزل الجيش في الظهيرة، فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك السفر مجيء عائشة بها في هذه الحال أشاع ما أشاع، ووشي الحديث، وتلقفته الألسن، حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين، وصاروا يتناقلون هذا الكلام، وانحبس الوحي مدة طويلة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبلغ الخبر صفوان بعد ذلك بمدة، فحزنت حزنا شديدا، فأنزل الله تعالى براءتها في هذه الآيات، ووعظ الله المؤمنين، وأعظم ذلك، ووصاهم بالوصايا النافعة. عائشة [ ص: 1156 ] (11) فقوله تعالى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته، ومعه زوجته إن الذين جاءوا بالإفك أي: الكذب الشنيع، وهو رمي أم المؤمنين عصبة منكم أي: جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين، منهم المؤمن الصادق في إيمانه، ولكنه اغتر بترويج المنافقين، ومنهم المنافق، لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها، والتنويه بذكرها، حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما تضمن من بيان الآيات المضطر إليها العباد، التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة، فكل هذا خير عظيم، لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك، وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا، ولذلك جعل الخطاب عاما مع المؤمنين كلهم، وأخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم، ففيه أن والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه فليكره من كل أحد أن يقدح في أخيه المؤمن الذي بمنزلة نفسه، وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه، المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم واجتماعهم على مصالحهم كالجسد الواحد، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم وهذا وعيد للذين جاءوا بالإفك، وأنهم سيعاقبون على ما قالوا من ذلك، وقد حد النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم جماعة، والذي تولى كبره أي: معظم الإفك، وهو المنافق الخبيث عبد الله بن أبي ابن سلول -لعنه الله- له عذاب عظيم ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار.
(12) ثم أرشد الله عباده عند سماع مثل هذا الكلام فقال: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا أي: ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا، وهو السلامة مما رموا به، وأن ما معهم من الإيمان المعلوم يدفع ما قيل فيهم من الإفك الباطل وقالوا بسبب ذلك الظن سبحانك أي: تنزيها لك من كل سوء، وعن أن تبتلي أصفياءك بالأمور الشنيعة، هذا إفك مبين أي: كذب وبهت من أعظم الأشياء وأبينها، فهذا من الظن الواجب حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن مثل هذا الكلام، أن يبرئه بلسانه ويكذب القائل لذلك.
(13) لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء أي: هلا جاء الرامون على ما رموا به بأربعة شهداء أي: عدول مرضيين، فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون [ ص: 1157 ] وإن كانوا في أنفسهم قد تيقنوا ذلك، فإنهم كاذبون في حكم الله؛ لأن الله حرم عليهم التكلم بذلك، من دون أربعة شهود، ولهذا قال: فأولئك عند الله هم الكاذبون ولم يقل: "فأولئك هم الكاذبون" وهذا كله من بحيث لا يجوز الإقدام على رميه من دون نصاب الشهادة بالصدق. تعظيم حرمة عرض المسلم،
(14) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة : بحيث شملكم إحسانه فيهما في أمر دينكم ودنياكم، لمسكم في ما أفضتم أي: خضتم فيه من شأن الإفك عذاب عظيم لاستحقاقكم ذلك بما قلتم، ولكن من فضل الله عليكم ورحمته أن شرع لكم التوبة، وجعل العقوبة مطهرة للذنوب.
(15) إذ تلقونه بألسنتكم أي: تلقفونه، ويلقيه بعضكم إلى بعض، وتستوشون حديثه، وهو قول باطل. وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم والأمران محظوران، التكلم بالباطل، والقول بلا علم، وتحسبونه هينا فلذلك أقدم عليه من أقدم من المؤمنين الذين تابوا منه، وتطهروا بعد ذلك، وهو عند الله عظيم وهذا فيه الزجر البليغ عن تعاطي بعض الذنوب على وجه التهاون بها، فإن العبد لا يفيده حسبانه شيئا، ولا يخفف من عقوبة الذنب، بل يضاعف الذنب، ويسهل عليه مواقعته مرة أخرى.
(16) ولولا إذ سمعتموه أي: وهلا إذ سمعتم -أيها المؤمنون- كلام أهل الإفك قلتم منكرين لذلك، معظمين لأمره: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا أي: ما ينبغي لنا، وما يليق بنا الكلام بهذا الإفك المبين؛ لأن المؤمن يمنعه إيمانه من ارتكاب القبائح هذا بهتان أي: كذب عظيم . (17) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أي: لنظيره من رمي المؤمنين بالفجور، فالله يعظكم وينصحكم عن ذلك، ونعم المواعظ والنصائح من ربنا، فيجب علينا مقابلتها بالقبول والإذعان والتسليم والشكر له، على ما بين لنا أن الله نعما يعظكم به إن كنتم مؤمنين دل ذلك على أن (18) الإيمان الصادق يمنع صاحبه من الإقدام على المحرمات. ويبين الله لكم الآيات المشتملة على بيان الأحكام والوعظ والزجر والترغيب والترهيب، يوضحها لكم توضيحا جليا. والله عليم حكيم أي: [ ص: 1158 ] كامل العلم عام الحكمة، فمن علمه وحكمته أن علمكم من علمه، وإن كان ذلك راجعا لمصالحكم في كل وقت.
(19) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة أي: الأمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم أي: موجع للقلب والبدن، وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجراءته على أعراضهم، فإذا كان هذا الوعيد لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك، من إظهاره ونقله؟ وسواء كانت الفاحشة صادرة أو غير صادرة، وكل هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم، كما صان دماءهم وأموالهم، وأمرهم بما يقتضي المصافاة، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه. والله يعلم وأنتم لا تعلمون فلذلك علمكم، وبين لكم ما تجهلونه.
(20) ولولا فضل الله عليكم قد أحاط بكم من كل جانب ورحمته عليكم وأن الله رءوف رحيم لما بين لكم هذه الأحكام والمواعظ والحكم الجليلة، ولما أمهل من خالف أمره، ولكن فضله ورحمته، وأن ذلك وصفه اللازم آثر لكم من الخير الدنيوي والأخروي ما لن تحصوه أو تعدوه.
(21) ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصه نهى عن الذنوب عموما فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان أي: طرقه ووساوسه، وخطوات الشيطان يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب واللسان والبدن. ومن حكمته تعالى أن بين الحكم، وهو: والحكمة، وهو: بيان ما في المنهي عنه من الشر المقتضي والداعي لتركه، فقال: النهي عن اتباع خطوات الشيطان، ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه أي: الشيطان يأمر بالفحشاء أي: ما تستفحشه العقول والشرائع من الذنوب العظيمة، مع ميل بعض النفوس إليه. والمنكر وهو ما تنكره العقول ولا تعرفه، فالمعاصي التي هي خطوات الشيطان لا تخرج عن ذلك، فنهي الله عنها العباد نعمة منه عليهم أن يشكروه ويذكروه؛ لأن ذلك صيانة لهم عن التدنس بالرذائل والقبائح، فمن إحسانه عليهم أن نهاهم عنها، كما نهاهم عن أكل السموم القاتلة ونحوها، ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا أي: ما تطهر من اتباع خطوات الشيطان؛ لأن الشيطان يسعى - هو وجنده - في الدعوة إليها وتحسينها، والنفس ميالة إلى السوء أمارة [ ص: 1159 ] به، والنقص مستول على العبد من جميع جهاته، والإيمان غير قوي، فلو خلي وهذه الدواعي ما زكي أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات والنماء بفعل الحسنات، فإن الزكاء يتضمن الطهارة والنماء، ولكن فضله ورحمته أوجبا أن يتزكى منكم من تزكى، وكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها" ولهذا قال: ولكن الله يزكي من يشاء من يعلم منه أن يتزكى بالتزكية، ولهذا قال: والله سميع عليم .
(22) ولا يأتل أي: لا يحلف أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا كان من جملة الخائضين في الإفك وهو قريب "مسطح بن أثاثة" - رضي الله عنه - وكان لأبي بكر الصديق فقيرا من المهاجرين في سبيل الله، فحلف مسطح أن لا ينفق عليه؛ لقوله الذي قال، فنزلت هذه الآية، ينهاه عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه، ويحثه على العفو والصفح، ويعده بمغفرة الله إن غفر له، فقال: أبو بكر ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم إذا عاملتم عبيده بالعفو والصفح، عاملكم بذلك، فقال - لما سمع هذه الآية-: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع النفقة إلى أبو بكر وفي هذه الآية دليل على مسطح. النفقة على القريب، وأنه لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان، والحث على العفو والصفح ولو جرى عليه ما جرى من أهل الجرائم.
(23) ثم ذكر فقال: الوعيد الشديد على رمي المحصنات إن الذين يرمون المحصنات أي: العفائف عن الفجور الغافلات اللاتي لم يخطر ذلك بقلوبهن المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة واللعنة لا تكون إلا على ذنب كبير، وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين ولهم عذاب عظيم وهذا زيادة على اللعنة، أبعدهم عن رحمته، وأحل بهم شدة نقمته، وذلك العذاب يوم القيامة. [ ص: 1160 ] (24) يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فكل جارحة تشهد عليهم بما عملته، ينطقها الذي أنطق كل شيء، فلا يمكنه الإنكار، ولقد عدل في العباد من جعل شهودهم من أنفسهم. (25) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق أي: جزاءهم على أعمالهم الجزاء الحق، الذي بالعدل والقسط، يجدون جزاءها موفرا، لم يفقدوا منها شيئا، ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ويعلمون في ذلك الموقف العظيم أن الله هو الحق المبين ، فيعلمون انحصار الحق المبين في الله تعالى، فأوصافه العظيمة حق، وأفعاله هي الحق، وعبادته هي الحق، ولقاؤه حق، ووعده ووعيده حق، وحكمه الديني والجزائي حق، ورسله حق، فلا ثم حق إلا في الله وما من الله.
(26) الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات أي: كل خبيث من الرجال والنساء والكلمات والأفعال مناسب للخبيث، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له، وكل طيب من الرجال والنساء والكلمات والأفعال مناسب للطيب، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له، فهذه كلمة عامة وحصر لا يخرج منه شيء، من أعظم مفرداته أن الأنبياء - خصوصا أولي العزم منهم، خصوصا سيدهم محمدا صلى الله عليه وسلم، الذي هو أفضل الطيبين من الخلق على الإطلاق - لا يناسبهم إلا كل طيب من النساء، فالقدح في - رضي الله عنها - بهذا الأمر قدح في النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو المقصود بهذا الإفك من قصد المنافقين، فمجرد كونها زوجة للرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنها لا تكون إلا طيبة طاهرة من هذا الأمر القبيح، فكيف وهي ما هي؟! صديقة النساء وأفضلهن وأعلمهن وأطيبهن، حبيبة رسول رب العالمين، التي لم ينزل الوحي عليه وهو في لحاف زوجة من زوجاته غيرها؟! ثم صرح بذلك، بحيث لا يبقي لمبطل مقالا، ولا لشك وشبهة مجالا فقال: عائشة أولئك مبرءون مما يقولون والإشارة إلى - رضي الله عنها – أصلا، وللمؤمنات المحصنات الغافلات تبعا عائشة لهم مغفرة تستغرق الذنوب ورزق كريم في الجنة، صادر من الرب الكريم.
[ ص: 1161 ]