وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا
(60) يخبر تعالى عن نبيه موسى عليه السلام، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لفتاه - أي: خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره، وهو "يوشع بن [ ص: 972 ] نون" الذي نبأه الله بعد ذلك-: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ؛ أي: لا أزال مسافرا وإن طالت علي الشقة، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين، عنده من العلم ما ليس عندك، أو أمضي حقبا ؛ أي: مسافة طويلة، المعنى: أن الشوق والرغبة حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة. (61) وهذا عزم منه جازم، فلذلك أمضاه، فلما بلغا ؛ أي: هو وفتاه مجمع بينهما نسيا حوتهما ، وكان معهما حوت يتزودان منه ويأكلان، وقد وعد أنه متى فقد الحوت فثم ذلك العبد الذي قصدته، فاتخذ ذلك الحوت سبيله ؛ أي: طريقه في البحر سربا وهذا من الآيات.
قال المفسرون: إن ذلك الحوت الذي كانا يتزودان منه لما وصلا إلى ذلك المكان أصابه بلل البحر، فانسرب بإذن الله في البحر، وصار مع حيواناته حيا.
(62) فلما جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين، قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ؛ أي: لقد تعبنا من هذا السفر المجاوز فقط، وإلا فالسفر الطويل الذي وصلا به إلى مجمع البحرين لم يجدا من التعب فيه، وهذا من الآيات والعلامات الدالة لموسى على وجود مطلبه، وأيضا فإن الشوق المتعلق بالوصول إلى ذلك المكان سهل لهما الطريق، فلما تجاوزا غايتهما وجدا مس التعب. (63) فلما قال موسى لفتاه هذه المقالة، قال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت أي: ألم تعلم حين آوانا الليل إلى تلك الصخرة المعروفة بينهما فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان لأنه السبب في ذلك واتخذ سبيله في البحر عجبا ؛ أي: لما انسرب في البحر ودخل فيه، كان ذلك من العجائب.
قال المفسرون: كان ذلك المسلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا. (64) فلما قال له الفتى هذا القول، وكان عند موسى وعد من الله أنه إذا فقد الحوت وجد الخضر، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغ ؛ أي: نطلب فارتدا ؛ أي: رجعا على آثارهما قصصا ؛ أي: رجعا يقصان أثرهما إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت. (65) فلما وصلا إليه، وجدا عبدا من عبادنا، وهو الخضر، وكان عبدا [ ص: 973 ] صالحا لا نبيا، على الصحيح.
آتيناه رحمة من عندنا أي: أعطاه الله رحمة خاصة، بها زاد علمه وحسن عمله وعلمناه من لدنا أي: من عندنا علما ، وكان قد أعطي من العلم ما لم يعط موسى، وإن كان موسى عليه السلام أعلم منه بأكثر الأشياء، وخصوصا في العلوم الإيمانية والأصولية؛ لأنه من أولي العزم من المرسلين، الذين فضلهم الله على سائر الخلق بالعلم والعمل، وغير ذلك. (66) فلما اجتمع به موسى قال له على وجه الأدب والمشاورة والإخبار عن مطلبه: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ؛ أي: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله، ما به أسترشد وأهتدي، وأعرف به الحق في تلك القضايا؟ وكان الخضر قد أعطاه الله من الإلهام والكرامة ما به يحصل له الاطلاع على بواطن كثير من الأشياء التي خفيت، حتى على موسى عليه السلام. (67) فقال الخضر لموسى: لا أمتنع من ذلك، ولكنك لن تستطيع معي صبرا ؛ أي: لا تقدر على اتباعي وملازمتي؛ لأنك ترى ما لا تقدر على الصبر عليه من الأمور التي ظاهرها المنكر، وباطنها غير ذلك. (68) ولهذا قال: وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ؛ أي: كيف تصبر على أمر ما أحطت بباطنه وظاهره، وعلمت المقصود منه ومآله؟
(69) فقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا : وهذا عزم منه، قبل أن يوجد الشيء الممتحن به، والعزم شيء ووجود الصبر شيء آخر، فلذلك ما صبر موسى عليه السلام حين وقع الأمر.
(70) فحينئذ قال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ؛ أي: لا تبتدئني بسؤال منك وإنكار حتى أكون أنا الذي أخبرك بحاله، في الوقت الذي ينبغي إخبارك به، فنهاه عن سؤاله، ووعده أن يوقفه على حقيقة الأمر.
(71) فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها ؛ أي: اقتلع الخضر منها لوحا، وكان له مقصود في ذلك سيبينه، فلم يصبر موسى عليه السلام؛ لأن ظاهره أنه منكر؛ لأنه عيب للسفينة، وسبب لغرق أهلها، ولهذا قال موسى: أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا أي: عظيما شنيعا، وهذا من عدم صبره عليه السلام. (72) فقال له الخضر: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا أي: فوقع كما أخبرتك. [ ص: 974 ] (73) وكان هذا من موسى نسيانا فقال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا أي: لا تعسر علي الأمر، واسمح لي، فإن ذلك وقع على وجه النسيان، فلا تؤاخذني في أول مرة، فجمع بين الإقرار به والعذر منه، وأنه ما ينبغي لك - أيها الخضر - الشدة على صاحبك، فسمح عنه الخضر.
(74) فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما أي: صغيرا فقتله الخضر، فاشتد بموسى الغضب، وأخذته الحمية الدينية، حين قتل غلاما صغيرا لم يذنب. قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا وأي نكر مثل قتل الصغير، الذي ليس عليه ذنب، ولم يقتل أحدا؟! وكانت الأولى من موسى نسيانا، وهذه غير نسيان، ولكن عدم صبر.
(75) فقال له الخضر معاتبا ومذكرا: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ؟
(76) فـ قال له موسى: إن سألتك عن شيء بعد هذه المرة فلا تصاحبني أي: فأنت معذور بذلك، وبترك صحبتي قد بلغت من لدني عذرا أي: أعذرت مني، ولم تقصر.
(77) فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها أي: استضافاهم، فلم يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض أي: قد عاب واستهدم فأقامه الخضر أي: بناه وأعاده جديدا. فـ قال له موسى: لو شئت لاتخذت عليه أجرا أي: أهل هذه القرية لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم، وأنت تبنيه من دون أجرة، وأنت تقدر عليها؟! (78) فحينئذ لم يف موسى عليه السلام بما قال، واستعذر الخضر منه، فقال له: هذا فراق بيني وبينك فإنك شرطت ذلك على نفسك، فلم يبق الآن عذر، ولا موضع للصحبة، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أي: سأخبرك بما أنكرت علي، وأنبئك بما لي في ذلك من المآرب، وما يئول إليه الأمر.
(79) أما السفينة التي خرقتها فكانت لمساكين يعملون في البحر يقتضي ذلك الرقة عليهم، والرأفة بهم. فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا أي: كان مرورهم على ذلك الملك الظالم، فكل سفينة صالحة [ ص: 975 ] تمر عليه ما فيها عيب غصبها وأخذها ظلما، فأردت أن أخرقها؛ ليكون فيها عيب فتسلم من ذلك الظالم.
(80) وأما الغلام الذي قتلته فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا وكان ذلك الغلام قد قدر عليه أنه لو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا؛ أي: لحملهما على الطغيان والكفر، إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه، أو يحملهما على ذلك؛ أي: فقتلته؛ لاطلاعي على ذلك؛ سلامة لدين أبويه المؤمنين، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة؟! (81) وهو وإن كان فيه إساءة إليهما، وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سيعطيهما من الذرية ما هو خير منه، ولهذا قال: فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما أي: ولدا صالحا، زكيا، واصلا لرحمه، فإن الغلام الذي قتل لو بلغ لعقهما أشد العقوق بحملهما على الكفر والطغيان.
(82) وأما الجدار الذي أقمته فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا أي: حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما؛ لكونهما صغيرين عدما أباهما، وحفظهما الله أيضا بصلاح والدهما.
فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما أي: فلهذا هدمت الجدار، واستخرجت ما تحته من كنزهما، وأعدته مجانا، رحمة من ربك أي: هذا الذي فعلته رحمة من الله، آتاها الله عبده الخضر، وما فعلته عن أمري أي: ما أتيت شيئا من قبل نفسي، ومجرد إرادتي، وإنما ذلك من رحمة الله وأمره. ذلك الذي فسرته لك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا . وفي هذه القصة العجيبة الجليلة من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير، ننبه على بعضه بعون الله: فمنها: وأنه أهم الأمور، فإن فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، موسى عليه السلام رحل مسافة طويلة، ولقي النصب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر؛ لزيادة العلم على ذلك.
ومنها: البداءة بالأهم فالأهم، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك، والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم، والجمع بين الأمرين أكمل.
[ ص: 976 ] ومنها: جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر؛ لكفاية المؤن، وطلب الراحة، كما فعل موسى.
ومنها: أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه، وأين يريده، فإنه أكمل من كتمه، فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته، وإتيان الأمر على بصيرة، وإظهارا لشرف هذه العبادة الجليلة، كما قال موسى: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه، مع أن عادته التورية، وذلك تبع للمصلحة.
ومنها: إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان، على وجه التسويل والتزيين، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره، لقول فتى موسى: وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره .
ومنها: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس، من نصب أو جوع، أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا، لقول موسى: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا .
ومنها: استحباب كون خادم الإنسان ذكيا فطنا كيسا؛ ليتم له أمره الذي يريده.
ومنها: لأن ظاهر قوله: استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله، وأكلهما جميعا؛ آتنا غداءنا إضافة إلى الجميع، وأنه أكل هو وهو جميعا.
ومنها: أن وأن الموافق لأمر الله يعان ما لا يعان غيره؛ لقوله: المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به، لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، والإشارة إلى السفر المجاوز لمجمع البحرين، وأما الأول: فلم يشتك منه التعب مع طوله؛ لأنه هو السفر على الحقيقة. وأما الأخير: فالظاهر أنه بعض يوم؛ لأنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة، فالظاهر أنهم باتوا عندها، ثم ساروا من الغد، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه آتنا غداءنا فحينئذ تذكر أنه نسيه في الموضع الذي إليه منتهى قصده.
ومنها: أن ذلك العبد الذي لقياه، ليس نبيا، بل عبدا صالحا؛ لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم، ولم يذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبيا لذكر ذلك كما ذكره غيره.
وأما قوله في آخر القصة: وما فعلته عن أمري فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث، كما يكون [ ص: 977 ] لغير الأنبياء، كما قال تعالى وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ، وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا .
ومنها: أن العلم الذي يعلمه الله لعباده نوعان:
علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده، ونوع: علم لدني، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله وعلمناه من لدنا علما .
ومنها: لقول التأدب مع المعلم، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب؛ موسى عليه السلام: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا؟ وإقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر الذي لا يظهر للمعلم افتقاره إلى علمه، بل يدعي أنه يتعاون هو وإياه، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه، وهو جاهل جدا، فالذل للمعلم وإظهار الحاجة إلى تعليمه من أنفع شيء للمتعلم.
ومنها: فإن تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه، موسى -بلا شك- أفضل من الخضر.
ومنها: بدرجات كثيرة. تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه، ممن مهر فيه، وإن كان دونه في العلم
فإن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر ما ليس عنده، فلهذا حرص على التعلم منه.
فعلى هذا، لا ينبغي للفقيه المحدث، إذا كان قاصرا في علم النحو أو الصرف أو نحوه من العلوم أن لا يتعلمه ممن مهر فيه، وإن لم يكن محدثا ولا فقيها.
ومنها: لقوله: إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى، والإقرار بذلك، وشكر الله عليها تعلمني مما علمت أي: مما علمك الله تعالى.
ومنها: أن فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق الخير وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة لذلك، فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك، فإما أن يكون ضارا، أو ليس فيه فائدة لقوله: العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير، أن تعلمني مما علمت رشدا .
ومنها: أن فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر ولازمه أدرك به كل أمر سعى فيه؛ لقول من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم، وحسن الثبات [ ص: 978 ] على ذلك، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم، الخضر - يعتذر من موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه - إنه لا يصبر معه.
ومنها: أن وإلا فالذي لا يدريه أو لا يدري غايته ولا نتيجته ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله: السبب الكبير لحصول الصبر إحاطة الإنسان علما وخبرة بذلك الأمر، الذي أمر بالصبر عليه، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا فجعل الموجب لعدم صبره عدم إحاطته خبرا بالأمر.
ومنها: الأمر بالتأني والتثبت وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود.
ومنها: وأن لا يقول الإنسان للشيء: إني فاعل ذلك في المستقبل، إلا أن يقول تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة، إن شاء الله .
ومنها: أن فإن العزم على فعل الشيء ليس بمنزلة فعله، موسى قال: ستجدني إن شاء الله صابرا فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل.
ومنها: أن كما إذا كان فهمه قاصرا، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها، أو لا يدركها ذهنه، أو يسأل سؤالا لا يتعلق في موضع البحث. المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع،
ومنها: جواز ركوب البحر في غير الحالة التي يخاف منها.
ومنها: أن لقوله: الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله، ولا في حقوق العباد؛ لا تؤاخذني بما نسيت .
ومنها: أنه فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر. ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو منها، وما سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون، أو يشق عليهم ويرهقهم،
[ ص: 979 ] ومنها: أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها، وتعلق بها الأحكام الدنيوية في الأموال والدماء وغيرها، فإن موسى عليه السلام أنكر على الخضر خرقه السفينة، وقتل الغلام، وأن هذه الأمور ظاهرها أنها من المنكر، وموسى عليه السلام لا يسعه السكوت عنها في غير هذه الحال، التي صحب عليها الخضر، فاستعجل عليه السلام، وبادر إلى الحكم في حالتها العامة، ولم يلتفت إلى هذا العارض، الذي يوجب عليه الصبر، وعدم المبادرة إلى الإنكار.
ومنها: القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه ويراعى أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شرا منه، وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته - وإن كان يظن أنه خير - فالخير ببقاء دين أبويه وإيمانهما خير من ذلك، فلذلك قتله الخضر، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ما لا يدخل تحت الحصر، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها داخل في هذا. "يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير"
ومنها: القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن عمل الإنسان في مال غيره - إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة - أنه يجوز، ولو بلا إذن، حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير، كما خرق الخضر السفينة؛ لتعيب، فتسلم من غصب الملك الظالم؛ فعلى هذا لو وقع حرق أو غرق أو نحوهما في دار إنسان أو ماله، وكان إتلاف بعض المال أو هدم بعض الدار فيه سلامة للباقي جاز للإنسان بل شرع له ذلك؛ حفظا لمال الغير، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير، ودفع إليه إنسان بعض المال؛ افتداء للباقي جاز، ولو من غير إذن.
ومنها: أن العمل يجوز في البحر، كما يجوز في البر لقوله: يعملون في البحر ولم ينكر عليهم عملهم.
ومنها: أن لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين لهم سفينة. المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة؛
ومنها: أن لقوله في قتل الغلام القتل من أكبر الذنوب؛ لقد جئت شيئا نكرا .
ومنها: أن لقوله القتل قصاصا غير منكر بغير نفس .
ومنها: أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه، وفي ذريته.
ومنها: أن خدمة الصالحين أو من يتعلق بهم أفضل من غيرها؛ لأنه علل [ ص: 980 ] استخراج كنزهما وإقامة جدارهما أن أباهما صالح.
ومنها: فإن استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ، الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله فأردت أن أعيبها وأما الخير فأضافه إلى الله تعالى لقوله: فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك كما قال إبراهيم عليه السلام وإذا مرضت فهو يشفين وقالت الجن: وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا مع أن الكل بقضاء الله وقدره.
ومنها: أنه كما فعل ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال، ويترك صحبته حتى يعتبه، ويعذر منه، الخضر مع موسى.
ومنها: أن كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة. موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها،
ومنها: أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح؛ ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا، وهي صلاح دينه، كما في قضية الغلام، أو وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة، فأراهم نموذجا من لطفه وكرمه؛ ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره الكريهة.