الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم جعل الآخرة حرثا، والدنيا حرثا يختار المرء منهما ما يشاء. فمن كان يريد حرث الآخرة عمل فيه، وزاد له الله في حرثه، وأعانه عليه بنيته، وبارك له فيه بعمله. وكان له مع حرث الآخرة رزقه المكتوب له في هذه الأرض لا يحرم منه شيئا؛ بل إن هذا الرزق الذي يعطاه في الأرض قد يكون هو بذاته حرث الآخرة بالقياس إليه حين يرجو وجه الله في تثميره وتصريفه والاستمتاع به والإنفاق منه… ومن كان يريد حرث الدنيا أعطاه الله من عرض الدنيا رزقه المكتوب له لا يحرم منه شيئا ولكن لم يكن له في الآخرة نصيب؛ فهو لم يعمل في حرث الآخرة شيئا ينتظر عليه ذلك النصيب!

                                                                                                                                                                                                                                      ونظرة إلى طلاب حرث الدنيا وطلاب حرث الآخرة تكشف عن الحماقة في إرادة حرث الدنيا! فرزق الدنيا [ ص: 3152 ] يتلطف الله، فيمنحه هؤلاء وهؤلاء. فلكل منهما نصيبه من حرث الدنيا وفق المقدور له في علم الله، ثم يبقى حرث الآخرة خالصا لمن أراده وعمل فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن طلاب حرث الدنيا نجد الأغنياء والفقراء بحسب أسباب الرزق المتعلقة بالأوضاع العامة والاستعدادات الخاصة. وكذلك نجد الحال عند طلاب حرث الآخرة سواء بسواء. ففي هذه الأرض لا اختلاف بين الفريقين في قضية الرزق. إنما يظهر الاختلاف والامتياز هناك! فمن هو الأحمق الذي يترك حرث الآخرة، وتركه لا يغير من أمره شيئ في هذه الحياة؟!

                                                                                                                                                                                                                                      والأمر في النهاية مرتبط بالحق والميزان الذي نزل به الكتاب من عند الله. فالحق والعدل ظاهران في تقدير الرزق لجميع الأحياء، وفي زيادة حرث الآخرة لمن يشاء، وفي حرمان الذين يريدون حرث الدنيا من حرث الآخرة يوم الجزاء ...

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يبدأ جولة أخرى حول الحقيقة الأولى :

                                                                                                                                                                                                                                      أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟ ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم، وإن الظالمين لهم عذاب أليم. ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم، والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات، لهم ما يشاءون عند ربهم، ذلك هو الفضل الكبير. ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قل : لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا، إن الله غفور شكور ..

                                                                                                                                                                                                                                      في فقرة سابقة قرر أن ما شرعه الله للأمة المسلمة هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى، وهو ما أوحى به إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وفي هذه الفقرة يتساءل في استنكار عما هم فيه، وما هم عليه، من ذا شرعه لهم ما دام الله لم يشرعه؟ وهو مخالف لما شرعه منذ أن كان هناك رسالات وتشريعات؟

                                                                                                                                                                                                                                      أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله ويأذن به كائنا من كان، فالله وحده هو الذي يشرع لعباده بما أنه - سبحانه - هو مبدع هذا الكون كله، ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له، والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس، ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس. وكل ما عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال. فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور.

                                                                                                                                                                                                                                      ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة فإن الكثيرين يجادلون فيها، أو لا يقتنعون بها، وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم، ويوائمون بين ظروفهم، والتشريع الذي ينشئونه من عند أنفسهم كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله!! أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله! وليس أخيب من ذلك ولا أجرأ على الله!

                                                                                                                                                                                                                                      لقد شرع الله للبشرية ما يعلم –سبحانه - أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يحقق لهذه البشرية أقصى درجات التعاون فيما بينها، والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى. شرع في هذا كله أصولا، وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة. فإذا ما اختلف البشر في شيء من هذا ردوه إلى الله، ورجعوا به إلى تلك [ ص: 3153 ] الأصول الكلية التي شرعها للناس لتبقى ميزانا يزن به البشر كل تشريع جزئي وكل تطبيق.

                                                                                                                                                                                                                                      بذلك يتوحد مصدر التشريع، ويكون الحكم لله وحده. وهو خير الحاكمين. وما عدا هذا النهج فهو خروج على شريعة الله، وعلى دين الله، وعلى ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      فقد قال الله كلمة الفصل بإمهالهم إلى يوم القول الفصل. ولولاها لقضى الله بينهم، فأخذ المخالفين لما شرعه الله المتبعين لشرع من عداه، لأخذهم بالجزاء العاجل؛ ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن الظالمين لهم عذاب أليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا هو الذي ينتظرهم جزاء الظلم. وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه؟

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم يعرض هؤلاء الظالمين في مشهد من مشاهد القيامة. يعرضهم مشفقين خائفين من العذاب وكانوا من قبل لا يشفقون، بل يستعجلون ويستهترون:

                                                                                                                                                                                                                                      ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      والتعبير العجيب يجعل إشفاقهم مما كسبوا فكأنما هو غول مفزع; وهو هو الذي كسبوه وعملوه بأيديهم وكانوا به فرحين! ولكنهم اليوم يشفقون منه ويفزعون وهو واقع بهم .. وكأنه هو بذاته انقلب عذابا لا مخلص منه، وهو واقع بهم!

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الصفحة الأخرى نجد المؤمنين الذين كانوا يشفقون من هذا اليوم ويخافون. نجدهم في أمن وعافية ورخاء:

                                                                                                                                                                                                                                      والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات، لهم ما يشاءون عند ربهم. ذلك هو الفضل الكبير. ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ..

                                                                                                                                                                                                                                      والتعبير كله رخاء يرسم ظلال الرخاء: في روضات الجنات .. لهم ما يشاءون عند ربهم بلا حدود ولا قيود. ذلك هو الفضل الكبير . ذلك الذي يبشر الله عباده فهو بشرى حاضرة، مصداقا للبشرى السالفة. وظل البشرى هنا هو أنسب الظلال.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى مشهد هذا النعيم الرخاء الجميل الظليل يلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم: إنه لا يطلب منهم أجرا على الهدى الذي ينتهي بهم إلى هذا النعيم، وينأى بهم عن ذلك العذاب الأليم. إنما هي مودته لهم لقرابتهم منه، وحسبه ذلك أجرا:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: لا أسألكم عليه أجرا. إلا المودة في القربى. ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا. إن الله غفور شكور ..

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى الذي أشرت إليه، وهو أنه لا يطلب منهم أجرا، إنما تدفعه المودة للقربى - وقد كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرابة بكل بطن من بطون قريش - ليحاول هدايتهم بما معه من الهدى، ويحقق الخير لهم إرضاء لتلك المودة التي يحملها لهم، وهذا أجره وكفى!

                                                                                                                                                                                                                                      هذا المعنى هو الذي انقدح في نفسي وأنا أقرأ هذا التعبير القرآني في مواضعه التي جاء فيها. وهناك تفسير مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أثبته هنا لوروده في صحيح البخاري:

                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، قال: [ ص: 3154 ] سمعت طاووسا يحدث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سأل عن قوله تعالى: إلا المودة في القربى فقال سعيد بن جبير: " قربى آل محمد . فقال ابن عباس: عجلت. إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطن من بطون قريش إلا كان له فيهم قرابة. فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة " .

                                                                                                                                                                                                                                      ويكون المعنى على هذا: إلا أن تكفوا أذاكم مراعاة للقرابة. وتسمعوا وتلينوا لما أهديكم إليه. فيكون هذا هو الأجر الذي أطلبه منكم لا سواه.

                                                                                                                                                                                                                                      وتأويل ابن عباس - رضي الله عنهما - أقرب من تأويل سعيد بن جبير - رضي الله عنه - ولكنني ما أزال أحس أن ذلك المعنى أقرب وأندى.. والله أعلم بمراده منا.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى أية حال فهو يذكرهم - أمام مشهد الروضات والبشريات - أنه لا يسألهم على شيء من هذا أجرا. ودون هذا بمراحل يطلب عليه الأدلاء أجرا ضخما! ولكنه فضل الله الذي لا يحاسب العباد حساب التجارة، ولا حساب العدل، ولكن حساب السماحة وحساب الفضل:

                                                                                                                                                                                                                                      ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ..

                                                                                                                                                                                                                                      فليس هو مجرد عدم تناول الأجر. بل إنها الزيادة والفضل.. ثم هي بعد هذا كله المغفرة والشكر:

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله غفور شكور ..

                                                                                                                                                                                                                                      الله يغفر. ثم.. الله يشكر.. ويشكر من؟ يشكر لعباده. وهو وهبهم التوفيق على الإحسان. ثم هو يزيد لهم في الحسنات، ويغفر لهم السيئات. ويشكر لهم بعد هذا وذاك.. فيا للفيض الذي يعجز الإنسان عن متابعته. فضلا على شكره وتوفيته!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يعود إلى الحديث عن تلك الحقيقة الأولى:

                                                                                                                                                                                                                                      أم يقولون: افترى على الله كذبا؟ فإن يشأ الله يختم على قلبك، ويمح الله الباطل، ويحق الحق بكلماته، إنه عليم بذات الصدور .

                                                                                                                                                                                                                                      هنا يأتي على الشبهة الأخيرة التي قد يعللون بها موقفهم من ذلك الوحي، الذي تحدث عن مصدره وعن طبيعته وعن غايته في الجولات الماضية:

                                                                                                                                                                                                                                      أم يقولون: افترى على الله كذبا؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهم من ثم لا يصدقونه، لأنهم يزعمون أنه لم يوح إليه، ولم يأته شيء من الله؟

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن هذا قول مردود. فما كان الله ليدع أحدا يدعي أن الله أوحى إليه، وهو لم يوح إليه شيئا، وهو قادر على أن يختم على قلبه، فلا ينطق بقرآن كهذا. وأن يكشف الباطل الذي جاء به ويمحوه. وأن يظهر الحق من ورائه ويثبته:

                                                                                                                                                                                                                                      فإن يشأ الله يختم على قلبك، ويمح الله الباطل، ويحق الحق بكلماته

                                                                                                                                                                                                                                      وما كان ليخفى عليه ما يدور في خلد محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى قبل أن يقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      إنه عليم بذات الصدور ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهي شبهة لا قوام لها. وزعم لا يقوم على أساس. ودعوى تخالف المعهود عن علم الله بالسرائر، وعن قدرته [ ص: 3155 ] على ما يريد، وعن سنته في إقرار الحق وإزهاق الباطل.. وإذن فهذا الوحي حق، وقول محمد صدق; وليس التقول عليه إلا الباطل والظلم والضلال.. وبذلك ينتهي القول - مؤقتا - في الوحي. ويأخذ بهم في جولة أخرى وراء هذا القرار.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية