الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم يخطو بهم خطوة أخرى في طريق نشأة الحياة والأحياء، بعد تمهيد الأرض للإنسان وتذليل السبل فيها للحياة:

                                                                                                                                                                                                                                      والذي نزل من السماء ماء بقدر، فأنشرنا به بلدة ميتا، كذلك تخرجون ..

                                                                                                                                                                                                                                      والماء الذي ينزل من السماء يعرفه كل إنسان; ويراه كل إنسان ولكن أكثر الناس يمرون على هذا الحدث العجيب دون يقظة ودون اهتزاز، لطول الألفة والتكرار. فأما محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يتلقى قطراته في حب وفي ترحيب وفي حفاوة وفي استبشار; لأنها قادمة إليه من عند الله. ذلك أن قلبه الحي كان يدرك صنع الله الحي في هذه القطرات، ويرى يده الصناع! وهكذا ينبغي أن يتلقاها القلب الموصول بالله ونواميسه في هذا الوجود. فهي وليدة هذه النواميس التي تعمل في هذا الكون وعين الله عليها ويد الله فيها في كل مرة وفي كل قطرة. ولا يبرد من حرارة هذه الحقيقة، ولا ينقص من وقعها أن هذا الماء أصله البخار المتصاعد من الأرض، المتكاثف في أجواز الفضاء. فمن أنشأ هذه الأرض؟ ومن جعل فيها الماء؟ ومن سلط عليها الحرارة؟ ومن جعل من طبيعة الماء أن يتبخر بالحرارة؟ ومن أودع البخار خاصية الارتفاع; وخاصية لتكثف في أجواز الفضاء؟ ومن أودع الكون خصائصه الأخرى التي تجعل ذلك البخار المتكثف مشحونا بالكهرباء التي تتلاقى وتتفرغ فيسقط الماء؟ وما الكهرباء؟ وما هذا وما ذاك من الخصائص والأسرار التي تنتهي كلها إلى نزول الماء؟ إننا نلقي من العلم على حسنا أثقالا تحجب عنا إيقاع هذا الكون العجيب، بدلا من أن نتخذ من العلم معرفة ترهف المشاعر وترقق القلوب!

                                                                                                                                                                                                                                      والذي نزل من السماء ماء بقدر ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهو مقدر موزون لا يزيد فيغرق; ولا يقل فتجف الأرض وتذبل الحياة; ونحن نرى هذه الأقوال الموافقة العجيبة، ونعرف اليوم ضرورتها لإنشاء الحياة وإبقائها كما أرادها الله.

                                                                                                                                                                                                                                      فأنشرنا به بلدة ميتا ..

                                                                                                                                                                                                                                      والإنشاء الإحياء. والحياة تتبع الماء. ومن الماء كل شيء حي.

                                                                                                                                                                                                                                      كذلك تخرجون ..

                                                                                                                                                                                                                                      فالذي أنشأ الحياة أول مرة كذلك يعيدها; والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة. فالإعادة من البدء وليس فيها عزيز على الله.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم هذه الأنعام التي يجعلون منها جزءا لله وجزءا لغير الله، وما لهذا خلقها الله إنما خلقها لتكون من نعم الله على الناس، يركبونها كما يركبون الفلك، ويشكرون الله على تسخيرهما، ويقابلون نعمته بما تستحقها:

                                                                                                                                                                                                                                      والذي خلق الأزواج كلها، وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون. لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه، وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ..

                                                                                                                                                                                                                                      والزوجية هي قاعدة الحياة كما تشير إليها هذه الآية. فكل الأحياء أزواج، وحتى الخلية الواحدة الأولى [ ص: 3180 ] تحمل خصائص التذكير والتأنيث معها. بل ربما كانت الزوجية هي قاعدة الكون كله لا قاعدة الحياة وحدها إذا اعتبرنا أن قاعدة أن قاعدة الكون هي الذرة المؤلفة من إلكترون سالب وبروتون موجب، كما تشير البحوث الطبيعية حتى الآن.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى أية حال فالزوجية في الحياة ظاهرة، والله هو الذي خلق الأزواج كلها من الإنسان وغير الإنسان:

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ..

                                                                                                                                                                                                                                      يذكر الناس بهذه الإشارة بنعمة الله عليهم في اصطفائهم بخلافة هذه الأرض، وبما سخر لهم فيها من قوى وطاقات. ثم يوجههم إلى الأدب الواجب في شكر هذه النعمة وشكر هذا الاصطفاء; وتذكر المنعم كلما عرضت النعمة، لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة:

                                                                                                                                                                                                                                      لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين .. فما نحن بقادرين على مقابلة نعمته بنعمة مثلها، وما نملك إلا الشكر نقابل به هذا الإنعام.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ليتذكروا أنهم عائدون بعد الخلافة في الأرض إلى ربهم ليجزيهم عما فعلوا في هذه الخلافة التي زودهم فيها بأنعمه. وسخر لهم فيها ما سخر من القوى والطاقات:

                                                                                                                                                                                                                                      وإنا إلى ربنا لمنقلبون ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذا هو الأدب الواجب في حق المنعم، يوجهنا الله إليه، لنذكره كلما استمتعنا بنعمة من نعمه التي تغمرنا، والتي نتقلب بين أعطافها.. ثم ننساه..!

                                                                                                                                                                                                                                      والأدب الإسلامي في هذا وثيق الصلة بتربية القلب وإحياء الضمير. فليس هو مجرد طقوس تزاول عند الاستواء على ظهور الفلك والأنعام، ولا مجرد عبارات يتلوها اللسان! إنما هو استحياء للمشاعر لتحس بحقيقة الله، وحقيقة الصلة بينه وبين عباده; وتشعر بيده في كل ما يحيط بالناس، وكل ما يستمتعون به مما سخره الله لهم، وهو محض الفضل والإنعام، بلا مقابل منهم، فما هم بقادرين على شيء يقابلون به فضل الله. ثم لتبقى قلوبهم على وجل من لقائه في النهاية لتقديم الحساب.. وكل هذه المشاعر كفيلة باستبقاء القلب البشري في حالة يقظة شاعرة حساسة لا تغفل عن مراقبة الله. ولا تجمد ولا تتبلد بالركود والغفلة والنسيان.

                                                                                                                                                                                                                                      بعد ذلك يعالج أسطورة الملائكة واتخاذهم آلهة بزعم أنهم بنات الله، وهم عباد الله:

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلوا له من عباده جزءا. إن الإنسان لكفور مبين. أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين؟ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم. أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون. وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يخرصون. أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون؟ بل قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون، وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. قال: أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟ قالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون. فانتقمنا منهم، فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن هذا القرآن يحاصر هذه الأسطورة ويواجهها في نفوسهم من كل جانب، ولا يبقي ثغرة مفتوحة حتى يأخذها عليهم، ويواجههم في هذا كله بمنطقهم ومسلماتهم وواقع حياتهم، كما يواجههم بمصير الذين وقفوا [ ص: 3181 ] مثل وقفتهم، وقالوا مثل قولتهم من الغابرين.

                                                                                                                                                                                                                                      ويبدأ بتصوير سخف هذه الأسطورة وتهافتها، ومقدار ما في القول بها من كفر صريح:

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلوا له من عباده جزءا، إن الإنسان لكفور مبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      فالملائكة عباد الله، ونسبة بنوتهم له معناها عزلهم من صفة العبودية، وتخصيصهم بقرابة خاصة بالله; وهم عباد كسائر العباد، لا مقتضى لتخصيصهم بصفة غير صفة العبودية في علاقتهم بربهم وخالقهم. وكل خلق الله عباد له خالصو العبودية. وادعاء الإنسان هذا الادعاء يدمغه بالكفر الذي لا شبهة فيه: إن الإنسان لكفور مبين .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يحاجهم بمنطقهم وعرفهم، ويسخر من سخف دعواهم أن الملائكة إناث ثم نسبتهم إلى الله:

                                                                                                                                                                                                                                      أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا كان الله - سبحانه - متخذا أبناء، فما له يتخذ البنات ويصطفيهم هم بالبنين; وهل يليق أن يزعموا هذا الزعم بينما هم يستنكفون من ولادة البنات لهم ويستاءون:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      أفما كان من اللياقة والأدب ألا ينسبوا إلى الله من يستاءون هم إذا بشروا به، حتى ليسود وجه أحدهم من السوء الذي يبلغ حدا يجل عن التصريح به، فيكظمه ويكتمه وهو يكاد يتميز من السوء؟! أفما كان من اللياقة والأدب ألا يخصوا الله بمن ينشأ في الحلية والدعة والنعومة، فلا يقدر على جدال ولا قتال; بينما هم - في بيئتهم - يحتفلون بالفرسان والمقاويل من الرجال؟!

                                                                                                                                                                                                                                      إنه يأخذهم في هذا بمنطقهم، ويخجلهم من انتقاء ما يكرهون ونسبته إلى الله. فهلا اختاروا ما يستحسنونه وما يسرون له فنسبوه إلى ربهم، إن كانوا لا بد فاعلين؟!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يحاصرهم هم وأسطورتهم من ناحية أخرى. فهم يدعون أن الملائكة إناث. فعلام يقيمون هذا الادعاء؟

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا. أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون ..

                                                                                                                                                                                                                                      أشهدوا خلقهم؟ فعلموا أنهم إناث؟ فالرؤية حجة ودليل يليق بصاحب الدعوى أن يرتكن إليه. وما يملكون أن يزعموا أنهم شهدوا خلقهم. ولكنهم يشهدون بهذا ويدعونه، فليحتملوا تبعة هذه الشهادة بغير ما كانوا حاضريه: ستكتب شهادتهم ويسألون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يتابع الفرية وما يصوغونه حولها من جدل واعتذار:

                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم. ما لهم بذلك من علم. إن هم إلا يخرصون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنهم يحاولون التهرب حين تحاصرهم الحجج، وتتهافت بين أيديهم الأسطورة. فيحيلون على مشيئة الله، يزعمون أن الله راض عن عبادتهم للملائكة; ولو لم يكن راضيا ما مكنهم من عبادتهم، ولمنعهم من ذلك منعا!

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا القول احتيال على الحقيقة. فإن كل شيء يقع في هذا الوجود إنما يقع وفق مشيئة الله. هذا حق. ولكن من مشيئة الله أن جعل للإنسان قدرة على اختيار الهدى أو اختيار الضلال. وكلفه اختيار الهدى ورضيه له ولم يرض له الكفر والضلال. وإن كانت مشيئة أن يخلقه قابلا للهدى أو الضلال.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3182 ] وهم حين يحيلون على مشيئة الله إنما يخبطون خبطا، فهم لا يوقنون أن الله أراد لهم أن يعبدوا الملائكة - ومن أين يأتيهم اليقين؟ - ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون .. ويتبعون الأوهام والظنون.

                                                                                                                                                                                                                                      أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      يستندون إليه في دعواهم، ويستندون إليه في عبادتهم، ويستمسكون بما فيه من حقائق، ويرتكنون إلى ما عندهم فيه من دليل!!

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا يأخذ عليهم الطريق من هذه الناحية; ويوحي إليهم كذلك أن العقائد لا يخبط فيها خبط عشواء، ولا يرتكن فيها إلى ظن أو وهم. إنما تستسقى من كتاب من عند الله يستمسك به من يؤتاه.

                                                                                                                                                                                                                                      وعند هذا الحد يكشف عن سندهم الوحيد في اعتقاد هذه الأسطورة المتهافتة التي لا تقوم على رؤية، ومزاولة هذه العبادة الباطلة التي لا تستند إلى كتاب:

                                                                                                                                                                                                                                      بل قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهي قولة تدعو إلى السخرية فوق أنها متهافتة لا تستند إلى قوة. إنها مجرد المحاكاة ومحض التقليد بلا تدبر ولا تفكر ولا حجة ولا دليل. وهي صورة مزرية تشبه صورة القطيع بمضي حيث هو منساق; ولا يسأل:

                                                                                                                                                                                                                                      إلى أين نمضي؟ ولا يعرف معالم الطريق!

                                                                                                                                                                                                                                      والإسلام رسالة التحرر الفكري والانطلاق الشعوري لا تقر هذا التقليد المزري، ولا تقر محاكاة الآباء والأجداد اعتزازا بالإثم والهوى. فلا بد من سند، ولا بد من حجة، ولا بد من تدبر وتفكير، ثم اختيار مبني على الإدراك واليقين.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم مصائر الذين قالوا قولتهم تلك واتبعوا طريقهم في المحاكاة والتقليد، وفي الإعراض والتكذيب، بعد الإصرار على ما هم فيه على الرغم من الإعذار والبيان!

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. قال: أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟ قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون. فانتقمنا منهم: فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا يتجلى أن طبيعة المعرضين عن الهدى واحدة، وحجتهم كذلك مكرورة: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون أو مقتدون .. ثم تغلق قلوبهم على هذه المحاكاة، وتطمس عقولهم دون التدبر لأي جديد. ولو كان أهدى. ولو كان أجدى. ولو كان يصدع بالدليل. وثم لا يكون إلا التدمير والتنكيل لهذه الجبلة التي لا تريد أن تفتح عينيها لترى، أو تفتح قلبها لتحس، أو تفتح عقلها لتستبين..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو مصير ذلك الصنف من الناس يعرضه عليهم لعلهم يتبينون عاقبة الطريق الذي يسلكون.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية