ومن ثم جاء التعقيب بعد هذا:
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ..
فليس إلها يعبد كما انحرف فريق من النصارى فعبدوه. إنما هو عبد أنعم الله عليه. ولا جريرة له في عبادتهم إياه. فإنما أنعم الله عليه ليكون مثلا لبني إسرائيل ينظرون إليه ويتأسون به. فنسوا المثل، وضلوا السبيل!
واستطرد إلى أسطورتهم حول الملائكة، يبين لهم أن الملائكة خلق من خلق الله مثلهم. ولو شاء الله لجعل الملائكة يخلفونهم في هذه الأرض، أو لحول بعض الناس إلى ملائكة يخلفونهم في الأرض:
ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ..
فمرد الأمر إلى مشيئة الله في الخلق. وما يشاؤه من الخلق يكون. وليس أحد من خلقه يمت إليه بنسب،ولا يتصل به - سبحانه - إلا صلة المخلوق بالخالق، والعبد بالرب، والعابد بالمعبود.
ثم يعود إلى تقرير شيء عن عيسى عليه السلام. يذكرهم بأمر الساعة التي يكذبون بها أو يشكون فيها:
وإنه لعلم للساعة. فلا تمترن بها. واتبعون. هذا صراط مستقيم. ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ..
وقد وردت أحاديث شتى عن نزول عيسى - عليه السلام - إلى الأرض قبيل الساعة وهو ما تشير إليه الآية: وإنه لعلم للساعة بمعنى أنه يعلم بقرب مجيئها، والقراءة الثانية وإنه لعلم للساعة بمعنى أمارة وعلامة. وكلاهما قريب من قريب.
عن رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبي هريرة - ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها " . والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم
[ ص: 3199 ] وعن رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جابر - عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال: صل لنا. فيقول: لا. إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله تعالى لهذه الأمة " . لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. فينزل
وهو غيب من الغيب الذي حدثنا عنه الصادق الأمين وأشار إليه القرآن الكريم، ولا قول فيه لبشر إلا ما جاء من هذين المصدرين الثابتين إلى يوم الدين.
فلا تمترن بها. واتبعون. هذا صراط مستقيم ..
وكانوا يشكون في الساعة، فالقرآن يدعوهم إلى اليقين. وكانوا يشردون عن الهدى، والقرآن يدعوهم على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباعه فإنه يسير بهم في الطريق المستقيم، القاصد الواصل الذي لا يضل سالكوه.
ويبين لهم أن انحرافهم وشرودهم أثر من اتباع الشيطان. والرسول أولى أن يتبعوه:
ولا يصدنكم الشيطان. إنه لكم عدو مبين ..
والقرآن لا يفتأ يذكر البشر بالمعركة الخالدة بينهم وبين الشيطان منذ أبيهم آدم، ومنذ المعركة الأولى في الجنة. وأغفل الغافلين من يعلم أن له عدوا يقف له بالمرصاد، عن عمد وقصد، وسابق إنذار وإصرار; ثم لا يأخذ حذره; ثم يزيد فيصبح تابعا لهذا العدو الصريح!
وقد أقام الإسلام الإنسان في هذه المعركة الدائمة بينه وبين الشيطان طوال حياته على هذه الأرض; ورصد له من الغنيمة إذا هو انتصر ما لا يخطر على قلب بشر، ورصد له من الخسران إذا هو اندحر ما لا يخطر كذلك على قلب بشر. وبذلك حول طاقة القتال فيه إلى هذه المعركة الدائبة; التي تجعل من الإنسان إنسانا، وتجعل له طابعه الخاص بين أنواع الخلائق المتنوعة الطبائع والطباع! ولتي تجعل أكبر هدف للإنسان على الأرض أن ينتصر على عدوه الشيطان; فينتصر على الشر والخبث والرجس; ويثبت في الأرض قوائم الخير والنصح والطهر.
وبعد هذه اللفتة يعود إلى بيان حقيقة عيسى - عليه السلام - وحقيقة ما جاء به; وكيف اختلف قومه من قبله ثم اختلفوا كذلك من بعده:
ولما جاء عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمة، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، فاتقوا الله وأطيعون. إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم. فاختلف الأحزاب من بينهم، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ..
فعيسى جاء قومه بالبينات الواضحات سواء من الخوارق التي أجراها الله على يديه، أو من الكلمات والتوجيهات إلى الطريق القويم. وقال لقومه: قد جئتكم بالحكمة . ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وأمن الزلل والشطط أمنه للتفريط والتقصير; واطمأن إلى خطواته في الطريق على اتزان وعلى نور. وجاء ليبين لهم بعض الذي يختلفون فيه. وقد اختلفوا في كثير من شريعة موسى - عليه السلام - وانقسموا فرقا وشيعا. ودعاهم إلى تقوى الله وإلى طاعته فيما جاءهم به من عند الله. وجهر بكلمة التوحيد خالصة لا مواربة فيها ولا لبس ولا غموض: إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه .. ولم يقل: إنه إله، ولم يقل: إنه ابن الله. ولم يشر من قريب أو بعيد [ ص: 3200 ] إلى صلة له بربه غير صلة العبودية من جانبه والربوبية من جانب الله رب الجميع. وقال لهم: إن هذا صراط مستقيم لا التواء فيه ولا اعوجاج، ولا زلل فيه ولا ضلال. ولكن الذين جاءوا من بعده اختلفوا أحزابا كما كان الذين من قبله مختلفين أحزابا. اختلفوا ظالمين لا حجة لهم ولا شبهة: فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ..
لقد كانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل; وكانوا ينتظرونه ليخلصهم مما كانوا فيه من الذل تحت حكم الرومان; وقد طال انتظارهم له، فلما جاءهم نكروه وشاقوه، وهموا أن يصلبوه!
ولقد جاء المسيح فوجدهم شيعا ونحلا كثيرة، أهمها أربع فرق أو طوائف.
طائفة الصدوقيين نسبة إلى " صدوق " وإليه وإلى أسرته ولاية الكهانة من عهد داود وسليمان. وحسب الشريعة لا بد أن يرجع نسبه إلى هارون أخي موسى . فقد كانت ذريته هي القائمة على الهيكل. وكانوا بحكم وظيفتهم واحترافهم متشددين في شكليات العبادة وطقوسها، ينكرون " البدع " في الوقت الذي يترخصون في حياتهم الشخصية ويستمتعون بملاذ الحياة; ولا يعترفون بأن هناك قيامة!
وطائفة الفريسيين، وكانوا على شقاق مع الصدوقيين. ينكرون عليهم تشددهم في الطقوس والشكليات، وجحدهم للبعث والحساب. والسمة الغالبة على الفريسيين هي الزهد والتصوف وإن كان في بعضهم اعتزاز وتعال بالعلم والمعرفة. وكان المسيح - عليه السلام - ينكر عليهم هذه الخيلاء وشقشقة اللسان!
وطائفة السامريين، وكانوا خليطا من اليهود والأشوريين، وتدين بالكتب الخمسة في العهد القديم المعروفة بالكتب الموسوية، وتنفي ما عداها مما أضيف إلى هذه الكتب في العهود المتأخرة، مما يعتقد غيرهم بقداسته.
وطائفة الآسين أو الأسينيين. وكانوا متأثرين ببعض المذاهب الفلسفية، وكانوا يعيشون في عزلة عن بقية طوائف اليهود، ويأخذون أنفسهم بالشدة والتقشف، كما يأخذون جماعتهم بالشدة في التنظيم.
وهناك غير هذه الطوائف نحل شتى فردية، وبلبلة في الاعتقاد والتقاليد بين بني إسرائيل الراضخين لضغط الإمبراطورية الرومانية المستذلين المكبوتين، الذين ينتظرون الخلاص على يد المخلص المنتظر من الجميع.
فلما أن جاء المسيح - عليه السلام - بالتوحيد الذي أعلنه: إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه . وجاء معه بشريعة التسامح والتهذيب الروحي والعناية بالقلب البشري قبل الشكليات والطقوس، حاربه المحترفون الذين يقومون على مجرد الأشكال والطقوس.
ومما يؤثر عنه - عليه السلام - في هذا قوله عن هؤلاء: " إنهم يحزمون الأوقار، ويسومون الناس أن يحملوها على عواتقهم، ولا يمدون إليها إصبعا يزحزحونها، وإنما يعملون عملهم كله لينظر الناس إليهم! يعرضون عصائبهم، ويطيلون أهداب ثيابهم، ويستأثرون بالمتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، ويبتغون التحيات في الأسواق. وأن يقال لهم: سيدي. سيدي. حيث يذهبون! " ..
أو يخاطب هؤلاء فيقول: " أيها القادة العميان الذين يحاسبون على البعوضة ويبتلعون الجمل.. إنكم تنقون ظاهر الكأس والصحفة، وهما في الباطن مترعان بالرجس والدعارة.. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون. إنكم كالقبور المبيضة. خارجها طلاء جميل وداخلها عظام نخرة " ..
وإن الإنسان - وهو يقرأ هذه الكلمات المأثورة عن المسيح - عليه السلام - وغيرها في بابها - ليكاد يتصور [ ص: 3201 ] رجال الدين المحترفين في زماننا هذا. فهو طابع واحد مكرر. لهؤلاء الرسميين المحترفين من رجال الدين، الذين يراهم الناس في كل حين!
ثم ذهب المسيح عليه السلام إلى ربه، فاختلف أتباعه من بعده. اختلفوا شيعا وأحزابا. بعضها يؤلهه. وبعضها ينسب لله سبحانه بنوته. وبعضها يجعل الله ثالث ثلاثة أحدها المسيح ابن مريم. وضاعت كلمة التوحيد الخالصة التي جاء بها عيسى عليه السلام. وضاعت دعوته الناس ليلجؤوا إلى ربهم ويعبدوه مخلصين له الدين .
فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم ..
ثم جاء مشركو العرب يحاجون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيسى - عليه السلام - بما فعلته الأحزاب المختلفة من بعده، وما أحدثته حوله من أساطير!
وحين يصل السياق إلى الحديث عن الظالمين - يدمج المختلفين من الأحزاب بعد عيسى - عليه السلام - مع المحاجين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعل هذه الأحزاب; ويصور حالهم يوم القيامة في مشهد رائع طويل، يحتوي كذلك صفحة المتقين المكرمين في جنات النعيم: