الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وفي ظل هذا المشهد الذي يرجون فيه كشف العذاب فلا يجابون يقول لهم: إن أمامكم فرصة بعد لم تضع، فهذا العذاب مؤخر عنكم قليلا وأنتم الآن في الدنيا. وهو مكشوف عنكم الآن فآمنوا كما تعدون أن تؤمنوا في الآخرة فلا تجابون. وأنتم الآن في عافية لن تدوم. فإنكم عائدون إلينا يوم نبطش البطشة الكبرى .. يوم يكون ذلك الدخان الذي شهدتم مشهده في تصوير لقرآن له. إنا منتقمون من هذا اللعب الذي تلعبون، وذلك البهت الذي تبهتون به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ تقولون عنه: معلم مجنون .. وهو الصادق الأمين..

                                                                                                                                                                                                                                      بهذا يستقيم تفسير هذه الآيات، كما يبدو لنا، والله أعلم بما يريد.

                                                                                                                                                                                                                                      بعد ذلك يأخذ بهم في جولة أخرى مع قصة موسى عليه السلام. فيعرضها في اختصار ينتهي ببطشة كبرى في هذه الأرض. بعد إذ أراهم بطشته الكبرى يوم تأتي السماء بدخان مبين:

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون، وجاءهم رسول كريم: أن أدوا إلي عباد الله، إني لكم رسول أمين. وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين. وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون، وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون.

                                                                                                                                                                                                                                      فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون.. فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. واترك البحر رهوا، إنهم جند مغرقون.

                                                                                                                                                                                                                                      كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم. ونعمة كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناها قوما آخرين. فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين. من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين. ولقد اخترناهم على علم على العالمين. وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الجولة تبدأ بلمسة قوية لإيقاظ قلوبهم إلى أن إرسال الرسول لقومه قد يكون فتنة وابتلاء. والإملاء للمكذبين فترة من الزمان، وهم يستكبرون على الله، ويؤذون رسول الله والمؤمنين معه قد يكون كذلك فتنة وابتلاء. وأن إغضاب الرسول واستنفاد حلمه على أذاهم ورجائه في هدايتهم قد يكون وراءه الأخذ الأليم والبطش الشديد:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3213 ] ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وابتليناهم بالنعمة والسلطان، والتمكين في الأرض، والإملاء في الرخاء، وأسباب الثراء والاستعلاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وجاءهم رسول كريم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكان هذا طرفا من الابتلاء، ينكشف به نوع استجابتهم للرسول الكريم، الذي لا يطلب منهم شيئا لنفسه; إنما يدعوهم إلى الله، ويطلب إليهم أن يؤدوا كل شيء لله، وألا يستبقوا شيئا لا يؤدونه من ذوات أنفسهم يضنون به على الله:

                                                                                                                                                                                                                                      أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين. وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين. وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون. وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها كلمات قصيرة تلك التي جاءهم بها رسولهم الكريم - موسى عليه السلام:

                                                                                                                                                                                                                                      إنه يطلب إليهم الاستجابة الكلية. والأداء الكامل. والاستسلام المطلق . الاستسلام المطلق لله. الذي هم عباده. وما ينبغي للعباد أن يعلوا على الله. فهي دعوة الله يحملها إليهم الرسول، ومعه البرهان على أنه رسول الله إليهم. البرهان القوي والسلطان المبين، الذي تذعن له القلوب وهو يتحصن بربه ويعوذ به أن يسطوا عليه وأن يرجموه. فإن استعصوا على الإيمان فهو يفاصلهم ويعتزلهم ويطلب إليهم أن يفاصلوه ويعتزلوه. وذلك منتهى النصفة والعدل والمسالمة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن الطغيان قلما يقبل النصفة، فهو يخشى الحق أن يظل طليقا، يحاول أن يصل إلى الناس في سلام وهدوء. ومن ثم يحارب الحق بالبطش. ولا يسالمه أبدا. فمعنى المسالمة أن يزحف الحق ويستولي في كل يوم على النفوس والقلوب. ومن ثم يبطش الباطل ويرجم ولا يعتزل الحق ولا يدعه يسلم أو يستريح!

                                                                                                                                                                                                                                      ويختصر السياق هنا حلقات كثيرة من القصة، ليصل إلى قرب النهاية. حين وصلت التجربة إلى نهايتها; وأحس موسى أن القوم لن يؤمنوا له ولن يستجيبوا لدعوته; ولن يسالموه أو يعتزلوه. وبدا له إجرامهم أصيلا عميقا لا أمل في تخليهم عنه. عند ذلك لجأ إلى ربه وملاذه الأخير:

                                                                                                                                                                                                                                      فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وماذا يملك الرسول إلا أن يعود إلى ربه بالحصيلة التي جنتها يداه؟ وإلا أن ينفض أمره بين يديه، ويدع له التصرف بما يريد؟

                                                                                                                                                                                                                                      وتلقى موسى الإجابة إقرارا من ربه لما دمغ به القوم.. حقا إنهم مجرمون..

                                                                                                                                                                                                                                      فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون. واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون ..

                                                                                                                                                                                                                                      والسرى لا يكون إلا ليلا، فالنص عليه يعيد تصوير المشهد، مشهد السري بعباد الله - وهم بنو إسرائيل. ثم للإيحاء بجو الخفية، لأن سراهم كان خفية عن عيون فرعون ومن وراء علمه. والرهو: الساكن. وقد أمر الله موسى - عليه السلام - أن يمر هو وقومه وأن يدع البحر وراءه ساكنا على هيئته التي مر هو وقومه فيها، لإغراء فرعون وجنده باتباعهم، ليتم قدر الله بهم كما أراده: إنهم جند مغرقون .. فهكذا ينفذ قدر الله من خلال الأسباب الظاهرة.والأسباب ذاتها طرف من هذا القدر المحتوم.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3214 ] ويختصر السياق حكاية مشهد الغرق أو عرضه، اكتفاء بالكلمة النافذة التي لا بد أن تكون: إنهم جند مغرقون .. ويمضي من هذا المشهد المضمر إلى التعقيب عليه; تعقيبا يشي بهوان فرعون الطاغية المتعالي وملئه الممالئ له على الظلم والطغيان. هوانه وهوانهم على الله، وعلى هذا الوجود الذي كان يشمخ فيه بأنفه، فيطأطئ له الملأ المفتونون به; وهو أضأل وأزهد من أن يحس به الوجود، وهو يسلب النعمة فلا يمنعها من الزوال، ولا يرثي له أحد على سوء المآل:

                                                                                                                                                                                                                                      كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم. ونعمة كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناها قوما آخرين. فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويبدأ المشهد بصور النعيم الذي كانوا فيه يرفلون.. جنات. وعيون. وزروع. ومكان مرموق، ينالون فيه الاحترام والتكريم. ونعمة يلتذونها ويطعمونها ويعيشون فيها مسرورين محبورين.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ينزع هذا كله منهم أو ينزعون منه. ويرثه قوم آخرون - وفي موضع آخر قال: كذلك وأورثناها بني إسرائيل - وبنو إسرائيل لم يرثوا ملك فرعون بالذات. ولكنهم ورثوا ملكا مثله في لأرض الأخرى. فالمقصود إذن هو نوع الملك والنعمة. الذي زال عن فرعون وملئه، وورثه بنو إسرائيل!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ماذا؟ ثم ذهب هؤلاء الطغاة الذين كانوا ملء الأعين والنفوس في هذه الأرض: ذهبوا فلم يأس على ذهابهم أحد، ولم تشعر بهم سماء ولا أرض; ولم ينظروا أو يؤجلوا عند ما حل الميعاد:

                                                                                                                                                                                                                                      فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو تعبير يلقي ظلال الهوان، كما يلقي ظلال الجفاء.. فهؤلاء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء. ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء. وذهبوا ذهاب النمال، وهم كانوا جبارين في الأرض يطؤون الناس بالنعال! وذهبوا غير مأسوف عليهم فهذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه، وهو مؤمن بربه، وهم به كافرون! وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه!

                                                                                                                                                                                                                                      ولو أحس الجبارون في الأرض ما في هذه الكلمات من إيحاء لأدركوا هوانهم على الله وعلى هذا الوجود كله. ولأدركوا أنهم يعيشون في الكون منبوذين منه، مقطوعين عنه، لا تربطهم به آصرة، وقد قطعت آصرة الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الصفحة المقابلة مشهد النجاة والتكريم والاختيار:

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين. ولقد اخترناهم على علم على العالمين. وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويذكر هنا نجاة بني إسرائيل من العذاب المهين في مقابل الهوان الذي انتهى إليه المتجبرون المتعالون المسرفون في التجبر والتعالي: من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يذكر اختيار الله لبني إسرائيل - على علم - بحقيقتهم كلها، خيرها وشرها. اختيارهم على العالمين في زمانهم بطبيعة الحال، لما يعلمه الله من أنهم أفضل أهل زمانهم وأحقهم بالاختيار والاستخلاف; على كل ما قصه عنهم بعد ذلك من تلكؤ ومن انحراف والتواء. مما يشير إلى أن اختيار الله ونصره قد يكون لأفضل أهل زمانهم; ولو لم يكونوا قد بلغوا مستوى الإيمان العالي; إذا كانت فيهم قيادة تتجه بهم إلى الله على هدى وعلى بصيرة واستقامة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3215 ] وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين ..

                                                                                                                                                                                                                                      فتعرضوا للاختبار بهذه الآيات، التي آتاهم الله إياها للابتلاء. حتى إذا تم امتحانهم، وانقضت فترة استخلافهم، أخذهم الله بانحرافهم والتوائهم، وبنتيجة اختبارهم وابتلائهم، فضربهم بمن يشردهم في الأرض، وكتب عليهم الذلة والمسكنة، وتوعدهم أن يعودوا إلى النكال والتشريد كلما بغوا في الأرض إلى يوم الدين..

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد هذه الجولة في مصرع فرعون وملئه، ونجاة موسى وقومه، وابتلائهم بالآيات بعد فتنة فرعون وأخذه.. بعد هذه الجولة يعود إلى موقف المشركين من قضية البعث والنشور، وشكهم فيها، وإنكارهم لها. يعود ليربط بين قضية البعث وتصميم الوجود كله وبنائه على الحق والجد، الذي يقتضي هذا البعث والنشور:

                                                                                                                                                                                                                                      إن هؤلاء ليقولون: إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين. فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين. أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين. وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون. إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين. يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون. إلا من رحم الله، إنه هو العزيز الرحيم .

                                                                                                                                                                                                                                      إن هؤلاء المشركين من العرب ليقولون. ما هي إلا الموتة التي نموتها، ثم لا حياة بعدها ولا نشور. ويسمونها " الأولى " بمعنى السابقة المتقدمة على الموعد الذي يوعدونه للبعث والنشور. ويستدلون على أنه ليس هناك إلا هذه الموتة وينتهي الأمر. يستدلون بأن آباءهم الذين ماتوا هذه الموتة ومضوا لم يعد منهم أحد، ولم ينشر منهم أحد; ويطلبون الإتيان بهم إن كان النشور حقا وصدقا.

                                                                                                                                                                                                                                      وهم في هذا الطلب يغفلون عن حكمة البعث والنشور; ولا يدركون أنها حلقة من حلقات النشأة البشرية ذات حكمة خاصة وهدف معين للجزاء على ما كان في الحلقة الأولى. والوصول بالطائعين إلى النهاية الكريمة التي تؤهلهم لها خطواتهم المستقيمة في رحلة الحياة الدنيا; والوصول بالعصاة إلى النهاية الحقيرة التي تؤهلهم لها خطواتهم المنتكسة المرتكسة في الحمأة المستقذرة.. وتلك الحكمة تقتضي مجيء البعث والنشور بعد انقضاء مرحلة الأرض كلها; وتمنع أن يكون البعث لعبة تتم حسب رغبة أو نزوة بشرية لفرد أو لجماعة محدودة من البشر كي يصدقوا بالبعث والنشور! وهم لا يكمل إيمانهم إلا أن يشهدوا بالغيب على هذه القضية، التي يخبرهم بها الرسل; ويقتضيها التدبر في طبيعة هذه الحياة، وفي حكمة الله في خلقها على هذا الأساس. وهذا التدبر وحده يكفي للإيمان بالآخرة، والتصديق بالنشور.

                                                                                                                                                                                                                                      وقبل أن يوجههم هنا إلى هذا التدبر في تصميم الكون ذاته، يلمس قلوبهم لمسة عنيفة بمصرع قوم تبع. والتبابعة من ملوك حمير في الجزيرة العربية. ولا بد أن القصة التي يشير إليها كانت معروفة للسامعين، ومن ثم يشير إليها إشارة سريعة للمس قلوبهم بعنف، وتحذيرها مصيرا كهذا المصير:

                                                                                                                                                                                                                                      أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ظل هذه الذكرى، وارتجاف القلوب من تصورها يقودهم إلى النظر في تصميم السماوات والأرض; وتنسيق هذا الكون; وما يبدو وراء هذا التنسيق من قصد وصدق وتدبير:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية