[ ص: 3218 ] (45) وآياتها سبع وثلاثون سورة الجاثية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين (3) وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون (4) واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون (5) تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون (6) ويل لكل أفاك أثيم (7) يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم (8) وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (9) من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم (10) هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم (11) الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12) وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (13) قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون (14) من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون (15) ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين (16) [ ص: 3219 ] وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (17) ثم جعلناك على .شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18) إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين (19) هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (20) أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21) وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (22) أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون (23)
هذه السورة المكية تصور جانبا من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها، واتباعهم للهوى اتباعا كاملا في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ذي سلطان. كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة الشاردة مع الهوى، المغلقة دون الهدى; وهو يواجهها بآيات الله القاطعة العميقة التأثير والدلالة، ويذكرهم عذابه، ويصور لهم ثوابه، ويقرر لهم سننه، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود.
ومن خلال آيات السورة وتصويرها للقوم الذين واجهوا الدعوة في مكة ، نرى فريقا من الناس مصرا على الضلالة، مكابرا في الحق، شديد العناد، سيئ الأدب في حق الله وحق كلامه، ترسمه هذه الآيات، وتواجهه بما يستحقه من الترذيل والتحذير والتهديد بعذاب الله المهين الأليم العظيم:
ويل لكل أفاك أثيم. يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها، فبشره بعذاب أليم. وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا، أولئك لهم عذاب مهين. من ورائهم جهنم، ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم ..
ونرى جماعة من الناس، ربما كانوا من أهل الكتاب سيئي التصور والتقدير; لا يقيمون وزنا لحقيقة الإيمان الخالصة، ولا يحسون بالفارق الأصيل بينهم وهم يعملون السيئات وبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات. والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقا أصيلا في ميزان الله بين الفريقين، ويقرر سوء حكمهم وسوء تصورهم للأمور; وقيام الأمر في ميزان الله على العدل الأصيل في صلب الوجود كله منذ بدء الخلق والتكوين:
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء محياهم ومماتهم؟ ساء ما يحكمون! وخلق الله السماوات والأرض بالحق، ولتجزى كل نفس بما كسبت، وهم لا يظلمون ..
[ ص: 3220 ] ونرى فريقا من الناس لا يعرف حكما يرجع إليه إلا هواه، فهو إلهه الذي يتعبده، ويطيع كل ما يراه. نرى هذا الفريق من الناس مصورا تصويرا فذا في هذه الآية; وهو يعجب من أمره ويشهر بغفلته وعماه:
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة؟ فمن يهديه من بعد الله؟ أفلا تذكرون؟ ..
ونرى هذا الفريق من الناس ينكر أمر الآخرة، ويشك كل الشك في قضية البعث والحساب، ويتعنت في الإنكار وفي طلب البرهان بما لا سبيل إليه في هذه الأرض. والقرآن يوجه هذا الفريق إلى الدلائل القائمة الحاضرة على صدق هذه القضية، وهم عنها معرضون:
وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر. وما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يظنون. وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا: ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين. قل: الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه. ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
ويجوز أن يكون هؤلاء جميعا فريقا واحدا من الناس يصدر منه هذا وذاك، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك. كما يجوز أن يكونوا فرقا متعددة ممن واجهوا الدعوة في مكة . بما في ذلك بعض أهل الكتاب، وقليل منهم كان في مكة . ويجوز أن تكون هذه إشارة عن هذا الفريق ليعتبر بها أهل مكة دون أن يقتضي هذا وجوده في مكة بالذات في ذلك الحين.
وعلى أية حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث.. كذلك واجههم بآيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، وحذرهم حساب يوم القيامة، وبصرهم بما جرى لمن قبلهم ممن انحرفوا عن دين لله القويم.
واجههم بآيات الله في هذا الأسلوب البسيط المؤثر العميق:
إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين. وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون. واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟ ..
وواجههم بها مرة أخرى في صورة نعم من أنعم الله عليهم يغفلون عن تذكرها وتدبرها:
الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ..
كذلك واجههم بحالهم يوم القيامة الذي ينكرونه أو يمارون فيه: