رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ..
دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به، المستقل المستصغر لجهده في شكرها. يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله: "أوزعني".. لينهض بواجب الشكر; فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير.
وأن أعمل صالحا ترضاه ..
وهذه أخرى. فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه. فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها. وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه.
وأصلح لي في ذريتي ..
وهذه ثالثة. وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته. وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه. والذرية الصالحة أمل العبد الصالح. وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر. وأروح لقلبه من كل زينة الحياة. والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله.
وشفاعته إلى ربه. شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله، هي التوبة والإسلام:
إني تبت إليك وإني من المسلمين ..
ذلك شأن العبد الصالح، صاحب الفطرة السليمة المستقيمة مع ربه. فأما شأن ربه معه، فقد أفصح عنه هذا القرآن:
أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة. وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ..
فالجزاء بحساب أحسن الأعمال. والسيئات مغفورة متجاوز عنها. والمآل إلى الجنة مع أصحابها الأصلاء. ذلك وفاء بوعد الصدق الذي وعدوه في الدنيا. ولن يخلف الله وعده.. وهو جزاء الفيض والوفر والإنعام.
فأما النموذج الآخر فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال:
والذي قال لوالديه: أف لكما! أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي؟ ..
فالوالدان مؤمنان. والولد العاق يجحد برهما أول ما يجحد; فيخاطبهما بالتأفف الجارح الخشن الوقح: أف لكما! .. ثم يجحد الآخرة بالحجة الواهية: أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي؟ .. أي ذهبوا ولم يعد منهم أحد.. والساعة مقدرة إلى أجلها. والبعث جملة بعد انتهاء أجل الحياة الدنيا. ولم يقل أحد إنه تجزئة. يبعث جيل مضى في عهد جيل يأتي. فليست لعبة وليست عبثا. إنما هو الحساب الختامي للرحلة كلها بعد انتهائها!
والوالدان يريان الجحود ويسمعان الكفر، ويفزعان مما يقوله الولد العاق لربه ولهما; ويرتعش حسهما لهذا التهجم والتطاول; ويهتفان به: وهما يستغيثان الله. ويلك آمن. إن وعد الله حق .. ويبدو في حكاية [ ص: 3264 ] قولهما الفزع من هول ما يسمعان. بينما هو يصر على كفره، ويلج في جحوده: فيقول: ما هذا إلا أساطير الأولين ..
هنا يعاجله الله بمصيره المحتوم:
أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ..
والقول الذي حق على هذا وأمثاله هو العقاب الذي ينال الجاحدين المكذبين. وهم كثير. خلت بهم القرون. من الجن والإنس. حسب وعيد الله الصادق الذي لا يخلف ولا يتخلف. إنهم كانوا خاسرين .. وأية خسارة أكبر من خسارة الإيمان واليقين في الدنيا. ثم خسارة الرضوان والنعيم في الآخرة. ثم العذاب الذي يحق على الجاحدين المنحرفين؟
وبعد بيان العاقبة والجزاء إجمالا للمهتدين والضالين، يصور دقة الحساب والتقدير لكل فرد من هؤلاء وهؤلاء على حدة:
ولكل درجات مما عملوا، وليوفيهم أعمالهم، وهم لا يظلمون ..
فلكل فرد درجته، ولكل فرد عمله، في حدود ذلك الإجمال في جزاء كل فريق.
وبعد، فهذان النموذجان عامان في الناس، ولكن مجيئهما في هذا الأسلوب، الذي يكاد يحدد شخصين بذواتهما أوقع وأشد إحياء للمثل كأنه واقع.
ولقد وردت روايات أن كلا منهما يعني إنسانا بعينه. ولكن لم يصح شيء من هذه الروايات. والأولى اعتبارهما واردين مورد المثل والنموذج. يدل على هذا الاعتبار صيغة التعقيب على كل نموذج. فالتعقيب على الأول: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة. وعد الصدق الذي كانوا يوعدون .. والتعقيب على الثاني: أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس، إنهم كانوا خاسرين .. ثم التعقيب العام: ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم، وهم لا يظلمون .. وكلها توحي بأن المقصود هو النموذج المكرر من هؤلاء وهؤلاء.
ثم يقفهم وجها لوجه أمام مشهد شاخص لهم في يوم الحساب الذي كانوا يجحدون:
ويوم يعرض الذين كفروا على النار. أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها. فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون ..
والمشهد سريع حاسم، ولكنه يتضمن لفتة عميقة عريضة. إنه مشهد العرض على النار. وفي مواجهتها وقبيل سوقهم إليها، يقال لهم عن سبب عرضهم عليها وسوقهم إليها: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها .. فقد كانوا يملكون الطيبات إذن، ولكنهم استنفدوها في الحياة الدنيا، فلم يدخروا للآخرة منها شيئا; واستمتعوا بها غير حاسبين فيها للآخرة حسابا. استمتعوا بها استمتاع الأنعام للحصول على اللذة بالمتاع، غير ناظرين فيها للآخرة، ولا شاكرين لله نعمته، ولا متورعين فيها عن فاحش أو حرام. ومن ثم كانت لهم دنيا ولم تكن لهم آخرة. واشتروا تلك اللمحة الخاطفة على الأرض بذلك الأمد الهائل الذي لا يعلم حدوده إلا الله!
فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون ..
[ ص: 3265 ] وكل عبد يستكبر في الأرض فإنما يستكبر بغير حق. فالكبرياء لله وحده. وليست لأحد من عباده في كثير أو قليل. وعذاب الهون هو الجزاء العدل على الاستكبار في الأرض. فجزاء الاستكبار الهوان. وجزاء الفسوق عن منهج الله وطريقه الانتهاء إلى هذا الهوان أيضا. فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
وهكذا ينتهي هذا الشوط من السورة بعرض ذينك النموذجين ومصيرهما في النهاية; وبهذا المشهد المؤثر للمكذبين بالآخرة، الفاسقين عن منهج الله، المستكبرين عن طاعته. وهي لمسة للقلب البشري تستجيش الفطر السليمة القويمة لارتياد الطريق الواصل المأمون.