فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب. حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فإما منا بعد وإما فداء. حتى تضع الحرب أوزارها ..
واللقاء المقصود في الآية هنا هو اللقاء للحرب والقتال لا مجرد اللقاء. فحتى نزول هذه السورة كان المشركون في الجزيرة منهم المحارب ومنهم المعاهد; ولم تكن بعد قد نزلت سورة "براءة" التي تنهي عهود المشركين المحددة [ ص: 3282 ] الأجل إلى أجلها، والمطلقة الأجل إلى أربعة أشهر; وتأمر بقتل المشركين بعد ذلك أنى وجدوا في أنحاء الجزيرة - قاعدة الإسلام - أو يسلموا. كي تخلص القاعدة للإسلام .
وضرب الرقاب المأمور به عند اللقاء يجيء بعد عرض الإسلام عليهم وإبائهم له طبعا. وهو تصوير لعملية القتل بصورتها الحسية المباشرة، وبالحركة التي تمثلها، تمشيا مع جو السورة وظلالها.
حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ..
والإثخان شدة التقتيل، حتى تتحطم قوة العدو وتتهاوى، فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع. وعندئذ - لا قبله - يؤسر من استأسر ويشد وثاقه. فأما والعدو ما يزال قويا فالإثخان والتقتيل يكون الهدف لتحطيم ذلك الخطر.
وعلى هذا لا يكون هناك اختلاف - كما رأى معظم المفسرين - بين مدلول هذه الآية، ومدلول آية الأنفال التي عاتب الله فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين لاستكثارهم من الأسرى في غزوة بدر. والتقتيل كان أولى. وذلك حيث يقول تعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .. فالإثخان أولا لتحطيم قوة العدو وكسر شوكته; وبعد ذلك يكون الأسر. والحكمة ظاهرة، لأن إزالة القوة المعتدية المعادية للإسلام هي الهدف الأول من القتال. وبخاصة حين كانت القوة العددية للأمة المسلمة قليلة محدودة. وكانت الكثرة للمشركين. وكان قتل محارب يساوي شيئا كبيرا في ميزان القوى حينذاك. والحكم ما يزال ساريا في عمومه في كل زمان بالصورة التي تكفل تحطيم قوة العدو، وتعجيزه عن الهجوم والدفاع.
فأما الحكم في الأسرى بعد ذلك، فتحدده هذه الآية. وهي النص القرآني الوحيد المتضمن حكم الأسرى:
فإما منا بعد وإما فداء ..
أي: إما أن يطلق سراحهم بعد ذلك بلا مقابل من مال أو من فداء لأسرى المسلمين. وإما أن يطلق مقابل فدية من مال أو عمل أو في نظير إطلاق سراح المسلمين المأسورين.
وليس في الآية حالة ثالثة. كالاسترقاق أو القتل. بالنسبة لأسرى المشركين.
ولكن الذي حدث فعلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده استرقوا بعض الأسرى - وهو الغالب - وقتلوا بعضهم في حالات معينة.
ونحن ننقل هنا ما ورد حول هذه الآية في كتاب (أحكام القرآن للإمام الجصاص الحنفي) ونعلق على ما نرى التعليق عليه في ثناياه. قبل أن نقرر الحكم الذي نراه:
قال الله تعالى: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب قال قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان. وهو نظير قوله تعالى: أبو بكر ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض .. (وهذا صحيح فليس بين النصين خلاف) .
حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن الحكم قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان. قال: حدثنا أبو عبيد. [ ص: 3283 ] قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة. عن في قوله تعالى: ابن عباس ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . قال: ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى: فإما منا بعد وإما فداء .. فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار. إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادوهم. شك أبو عبيد في.. وإن شاءوا استعبدوهم.. (والاستعباد مشكوك في صدور القول به عن فنتركه. وأما جواز القتل فلا نرى له سندا في الآية وإنما نصها المن أو الفداء). ابن عباس
وحدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا أبو عبيد، قال: حدثنا أبو مهدي وحجاج، كلاهما عن سفيان. قال: سمعت يقول في قوله: السدي فإما منا بعد وإما فداء .. قال: هي منسوخة، نسخها قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم : قال أما قوله: أبو بكر: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب .. وقوله: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض .. وقوله: فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم .. فإنه جائز أن يكون حكما ثابتا غير منسوخ. وذلك لأن الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالإثخان في القتل وحظر عليه الأسر - إلا بعد إذلال المشركين وقمعهم - وكان ذلك وقت قلة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوهم من المشركين، فمتى أثخن المشركون وأذلوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء. فالواجب أن يكون هذا حكما ثابتا إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام. (ونقول: إن الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا خاص بمشركي الجزيرة. بينما النص في سورة محمد عام. فمتى تحقق الإثخان في الأرض جاز أخذ الأسارى. وهذا ما جرى عليه الخلفاء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد نزول سورة براءة بطبيعة الحال، ولم يقتلوهم إلا في حالات معينة سيأتي بيانها)..
وأما قوله: فإما منا بعد وإما فداء .. ظاهره يقتضي أحد شيئين: من أو فداء. وذلك ينفي جواز القتل. وقد اختلف السلف في ذلك. حدثنا حجاج عن عن مبارك بن فضالة أنه كره قتل الأسير، وقال: من عليه أو فاده. وحدثنا الحسن جعفر قال: حدثنا أبو عبيد قال: أخبرنا هشيم. قال: أخبرنا أشعث قال: سألت عن قتل الأسير فقال: من عليه أو فاده قال: وسألت عطاء قال: يصنع به ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأسارى الحسن. بدر، يمن عليه أو يفادي به. وروي عن أنه دفع إليه عظيم من عظماء إصطخر ليقتله، فأبى أن يقتله، وتلا قوله: ابن عمر فإما منا بعد وإما فداء .. وروي أيضا عن مجاهد كراهة قتل الأسير. وقد روينا عن ومحمد بن سيرين أن قوله: السدي فإما منا بعد وإما فداء منسوخ بقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . وروي مثله عن حدثنا ابن جريج. جعفر قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج، عن قال: هي منسوخة. وقال: ابن جريج.، عقبة بن أبي معيط يوم بدر صبرا، قال قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافا فيه، وقد تواترت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتله الأسير، منها قتله أبو بكر: عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر. وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعد ما أسر. وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم فحكم فيهم بالقتل وسبي الذرية. ومن على سعد بن معاذ، الزبير بن باطا من بينهم، وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئا، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله. وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل، ومقيس بن حبابة، وعبد الله بن أبي سرح، وآخرين، وقال:
ومن على أهل "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة". مكة ولم يغنم أموالهم. وروي عن عن صالح بن [ ص: 3284 ] كيسان محمد بن عبد الرحمن عن أبيه أنه سمع عبد الرحمن بن عوف، يقول: "وددت أني يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته، وكنت قتلته سريحا، أو أطلقته نجيحا". وعن أبا بكر الصديق أنه قتل أبي موسى دهقان السوس بعد ما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله. فهذه آثار متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه. واتفق فقهاء الأمصار على ذلك. (وجواز القتل لا يؤخذ من الآية، ولكن يؤخذ من عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعض الصحابة. وتتبع الحالات التي وقع فيها القتل يعطي أنها حالات خاصة، وراءها أسباب معينة غير مجرد التعرض للقتال والأسر. فالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط كلاهما كان له موقف خاص في إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيذاء دعوته. وكذلك أبو عزة الشاعر، ولبني قريظة كذلك موقف خاص بارتضائهم حكم سلفا. وهكذا نجد في جميع الحالات أسبابا معينة تفرد هذه الحالات من الحكم العام للأسرى الذي تقرره الآية: سعد بن معاذ فإما منا بعد وإما فداء ) ..
وإنما اختلفوا في فدائه، فقال أصحابنا جميعا (يعني الحنفية): لا يفادى الأسير بالمال، ولا يباع السبي من أهل الحرب فيردوا حربا. وقال أبو حنيفة: لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا، ولا يردون حربا أبدا. وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يفادى أسرى المسلمين بأسرى المشركين. وهو قول الثوري وقال والأوزاعي، لا بأس ببيع السبي من أهل الحرب، ولا يباع الرجال إلا أن يفادى بهم المسلمون. وقال الأوزاعي: المزني عن للإمام أن يمن على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادي بهم، فأما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال فإنهم احتجوا بقوله: الشافعي: فإما منا بعد وإما فداء وظاهره يقتضي جوازه بالمال وبالمسلمين; وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فدى أسارى بدر بالمال. ويحتجون للفداء بالمسلمين بما روى عن ابن المبارك، عن معمر، أيوب، عن عن أبي قلابة، أبي المهلب، عن قال: عمران ابن حصين. ثقيف رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا من بني عامر ابن صعصعة فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو موثق، فناداه، فأقبل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: علام أحبس؟ قال: "بجريرة حلفائك". فقال الأسير: إني مسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح". ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فناداه أيضا، فأقبل، فقال: إني جائع فأطعمني. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "هذه حاجتك". ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما.. (وحجة القائلين بالفداء أرجح في تقديرنا من حجة أصحاب الإمام أسرت على الاختلاف في الجصاص أو بأسرى المسلمين). الفداء بالمال
وقد ختم الإمام القول في المسألة بترجيح رأي أصحابه الحنفية قال: وأما ما في الآية من ذكر المن والفداء، وما روي في أسارى الجصاص بدر فإن ذلك منسوخ بقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم .. وقد روينا ذلك عن السدي وقوله تعالى: وابن جريج. قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . فتضمنت الآيتان وجوب القتال للكفار حتى يسلموا أو يؤدوا والفداء بالمال أو بغيره ينافي ذلك. ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة "براءة" بعد سورة "محمد" - صلى الله عليه وسلم - فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخا للفداء المذكور في غيرها..(وقد سبق القول بأن هذا القتل للمشركين - أو الإسلام - مقصود به مشركو الجزية. الجزيرة فهو حكم خاص بهم. أما غيرهم خارجها [ ص: 3285 ] فتقبل منهم الجزية كما تقبل من أهل الكتاب. وقبول الجزية عند التسليم لا ينفي أن يقع الأسرى في أيدي المسلمين قبل التسليم. فهؤلاء الأسرى ما الحكم فيهم؟ نقول: إنه يجوز المن عليهم إذا رأى الإمام المصلحة، أو الفداء بهم بالمال أو بالمسلمين، إذا ظل قومهم قوة لم تستسلم بعد ولم تقبل الجزية. فأما عند الاستسلام للجزية فالأمر منته بطبيعته وهذه حالة أخرى، فحكم الأسرى يظل ساريا في الحالة التي لم تنته بالجزية).
والخلاصة التي ننتهي إليها أن هذا النص هو الوحيد المتضمن وسائر النصوص تتضمن حالات أخرى غير حالة الأسر. وأنه هو الأصل الدائم للمسألة. وما وقع بالفعل خارجا عنه كان لمواجهة حالات خاصة وأوضاع وقتية. فقتل بعض الأسرى كان في حالات فردية يمكن أن يكون لها دائما نظائر; وقد أخذوا بأعمال سابقة على الأسر، لا بمجرد خروجهم للقتال. ومثال ذلك أن يقع جاسوس أسيرا فيحاكم على الجاسوسية لا على أنه أسير. وإنما كان الأسر مجرد وسيلة للقبض عليه. حكم الأسرى.
ويبقى الاسترقاق. وقد سبق لنا في مواضع مختلفة من هذه الظلال القول بأنه كان لمواجهة أوضاع عالمية قائمة، وتقاليد في الحرب عامة. ولم يكن ممكنا أن يطبق الإسلام في جميع الحالات النص العام: